متّكئاً على مائة وثلاث من السّنوات، يجلس في مشراقه كعادته كل صباح، ومن أمامه تمر أمواج من البشر تتسابق في طرقات الحياة المختلفة، إلى كل الجهات الأصليّة والفرعيّة من هذه الكرة الأرضيّة، إلى السّوق المركزي، إلى مغسلة الملابس، إلى محطّة الوقود، إلى المطعم، إلى مقر العمل، إلى المدارس، إلى المحكمة والبلديّة والضّمان الاجتماعي والأحوال المدنيّة وغيرها..
هو فقط ثابت في مكانه، يسترجع شريط حياته، يسترجع سعيه القديم إلى كل تلك الجهات، حتّى يصل إلى النّقطة الّتي هو فيها الآن، نقطة نهاية السّباق، التي سيصل إليها كل هؤلاء المتسابقين في لحظة، ويبدأ يقارن بين الماضي والحاضر، ليصل إلى أن تفاصيل هذا العالم لم تعد تعني له شيئاً، لم يعد يحتاج السّوق المركزي بكل ما فيه من مواد غذائيّة، فلم تعد النّفس تشتهي شيئاً منها، فطعامه اليوم لقيمات قليلة فقط تسد الرّمق، ولم يعد يحتاج مغسلة الملابس.
لأنّه لا يعمل حتّى تتّسخ ملابسه، فملابسه القليلة يكفيها القليل من الماء لتصبح نظيفة، ولم يعد يحتاج إلى الذّهاب للدّوائر الحكوميّة للمراجعة، فلا معاملات له في المحكمة ولا في البلدية ولا في غيرها، ولا حاجة له بمراجعة المرور لأنّه لم يعد يستطيع قيادة السّيّارة.
حتّى المباريات الرّياضيّة خاصّة (المصارعة) الّتي كان يهتم بمتابعتها لتزجية الوقت، لم يعد النّظر يساعده على رؤيتها، لم يعد بحاجة إلى أي من مكوّنات عالمنا الاستهلاكي، لقد أصبح يقضي معظم وقته ما بين نوم وصحو، وصحو ونوم متقطّع، وصمتُ يلفّ بكل ما يحيط به، أصبح يعيش في دائرة ضيّقة جدّا حدودها المستشفى وغرفته وسريره، ومشراقه لم يعد يثيره جمال النّساء، ولا صراع الرّجال، ولا جمع الأموال، ولا حضور المناسبات، ولا خوض المنافسات، وحتّى حينما يلحّ عليه أحفاده لاصطحابه معهم إلى السّوق أو البحر أو البر وخاصّة أيام الأعياد..
يبكي بحرقة ويزداد ألمه ووجعه، لأنّه يشعر بأن كل الأشياء الّتي حوله لم تعد تعني له شيئاً، ولا قيمة ولا أهميّة لها في حياته، وقد كانت في يوم هي كل تفاصيل الحياة، كم هو مؤلم هذا الإحساس، لأن فقدان الشّخص لأهميّة الأشياء الموجودة في الحياة، تعني فقدان الشّخص ذاته لأهميّته في الحياة !لقد أصبحت كل أفكاره من وحي الموت.