إن حالة الاضطراب والقلق على اختلاف أنماطها ودرجاتها التي تشهدها بعض الدول العربية ليست حالة استثنائية، بل يشهد التاريخ القريب والبعيد حالات ربما أسوأ مما نعيشه في الوقت الحاضر، وهذه سُنة من سنن الله المجتمعية التي تتعرض لها الشعوب، ويتمخض عنها حالة من التغيير الذي يتجه في أحد اتجاهين، إما تغيير مقصود منضبط بنّاء معروفة غاياته وأهدافه، أو تغيير فوضوي تدميري لا يُعرف له غاية ولا هدف، مثلما كانت تعتقد مستشارة الأمن القومي الأمريكي.
ومن استقراء القواسم المشتركة بين حالات الفوضى والاضطراب والقلق التي طفح كيلها في عدد من الدول العربية يتبيّن أنها نتاج أوضاع غير لائقة في جل مجالات الحياة الاجتماعية، وأخص التعليمية منها والصحية والسكن، هذا فضلاً عن التهميش والفساد وإهدار المال العام. لهذه الأوضاع وغيرها خرجت الأمور عن السيطرة، وعجزت أدوات الحكم عن إقناع الناس، وباتت بين خيارين، إما القمع وهو ما يبدو الآن جلياً في سوريا والعراق، وقبله في ليبيا ومصر واليمن، أو الإذعان كما حصل في تونس.
وفي كل الحالات كان المواطن العربي ضحية رخيصة لأنظمة حكم مستبدة، كان همها الأول كيف تبقى في سدة الحكم إلى ما شاء الله. أنظمة كانت نظرتها قاصرة خاطئة ضيقة، كانت نظرة هذه الأنظمة قاصرة بسبب سيطرة هاجس الاحتفاظ بالحكم والاستمتاع بشهوة السلطة، وتناست دورها الرئيس المتمثل في صناعة التنمية وتحقيق العدالة، وبناء الإنسان، وتهيئة الحياة الكريمة له في كل مجالات الحياة الاجتماعية.
كانت نظرة هذه الأنظمة خاطئة كونها أهملت حاجات الرعية ومستلزمات حياتيهم الضرورية؛ فأضحى عامة الناس والسواد الأعظم منهم يستجدي تلبية أبسط حقوقه الضرورية في التعليم والعلاج والسكن والعمل.
كانت نظرة هذه الأنظمة ضيقة كونها اعتمدت على زمرة من المنتفعين النفعيين الذين لا همّ لهم إلا المزيد من الاستحواذ والاستئثار والاستكثار، والبحث في أوجه الانتفاع المشترك مع النافذين المقربين من صناعة القرار. ومما زاد من ألم بجاحة هذه الزمرة أنها تكشف علانية عن صور الاستحواذ التي حظيت بها، وتتحدث صراحة عن صور العلاقة الحميمية مع أصحاب القرار والمقربين منهم، وكيف وصلوا إليهم وارتبطوا بهم، الذين يدلونهم ويمهدون لهم ويسهلون عليهم سبل الاستحواذ والاستئثار والاستكثار من العقود والمناقصات الضخمة بأساليبهم المعروفة التي لا تستحي ولا تخجل.
كان بالإمكان تغليب الحكمة والعقل، وتجنب مظاهر الاضطراب والقلق، ولكن طالما أن الفتنة أناخت مطاياها، وضربت أطنابها، وحصلت، وغدت حقيقة مشاهَدة بصفة يومية، بل إنها تتطور وتتصاعد باتجاه العنف والمواجهة والتدمير، في كل الدول التي خرج أهلها ينشدون الحرية والعدالة والحياة الكريمة، هذه الحالة المأساوية وإن كانت في البيوت المجاورة، يفترض بالعقلاء أياً كان موقعهم ألا يكتفوا بالفرجة على أوار النار المتأججة في تلك البيوت المجاورة، وإنما عليهم الوقوف عند مقولة: «السعيد من وُعظ بغيره»؛ فيسعون جاهدين إلى تقديم الرؤى والحلول التي تقطع الطريق على توسيع دوائر العنف والاضطراب والفوضى، وإثارة القلاقل والفتن من أطراف يبهجها ويطربها أن ترى العدوى وقد عمّ شررها البلاد التي ما زالت - ولله الحمد - في مأمن، وتتمتع بنعمة الأمن والاستقرار.
إن امتصاص الفتن والتقليل من مخاطرها وهي في مرحلة المهد أيسر وأسهل من التعامل معها بعد أن يشتد عودها، وتتسع دوائرها، ولاسيما أن متطلبات الإطفاء سهلة وميسرة وبسيطة؛ كل ما تتطلبه إيمان وعزيمة، وبدء بالممكن المتاح. عدا هذا فليعلم المتأخر أن عمى البصيرة دائماً يفضي إلى المهالك.