الخبر الذي نشرته صحيفة الجزيرة بتاريخ 28-4-1435هـ أثار الاهتمام والرضا، حيث أفاد بأن وزارة الصحة دعت سبع جهات حكومية لاجتماع يبحث إصدار إستراتيجية وطنية لممارسة أنماط الحياة الصحية من خلال إجراءات
تؤدي إلى تخفيض الإصابة بالعديد من الأمراض. هذا الخبر أعاد البريق إلى الدور الوقائي لوزارة الصحة، وهو حماية صحة المجتمع ووقايتها من الأمراض، وأكد أن الشخص الصحيح له أيضا مكان الصدارة في إستراتيجية الرعاية الصحية التي تبنتها الوزارة قبل خمس سنوات، ولبها المشروع الوطني للرعاية الصحية المتكاملة والشاملة، وتعمل على تنفيذها على محاور وبرامج متنوعة، لكنها جميعا تضع المريض مركز اهتمامها، وترفع شعار (المريض أولا) الذي يفهم منه أن ما توفره الوزارة من منشآت طبية وموارد بشرية وخدمات وقائية وعلاجية وتأهيل ودواء وأجهزة، وإجراءات عمل وأساليب رقابة وجودة ونظم معلومات وإحالة، إنما هو موجه لينتج ما يحتاجه المريض من عناية طبية، أو ليؤدي إلى خدمة تصب في مصلحة المريض، وأن الأولويات ترتب بناء على ذلك - وليس استجابة لضغوط اجتماعية أو بيروقراطية. أما الأفراد الأصحاء فإن الجهود المبذولة للعناية بهم تنصبّ على أن لا يصبحوا مرضى أصلا. تلك الجهود لا تصب من خلال قناة واحدة، ولا هي موجهة نحو الفرد بشخصه - كالممارس الصحي الذي يشخص ويعالج ويؤهل الفرد المريض - بل هي موجهة عبر قنوات متعددة لتمكين أفراد المجتمع كافة من العيش في بيئة صحية والتمتع بنمط الحياة الصحية. الدولة هي التي في إمكانها الالتزام ببذل هذه الجهود وضمان وصولها والحصول عليها لجميع طبقات المجتمع - للحفاظ على صحة المجتمع كله، وهذا هو منطلق مفهوم (الصحة العامة -public health). النظام الأساسي للحكم (صدر عام 1412هـ) أكد التزام الدولة في المادة 27 بالنص على أن الدولة تعنى بالصحة العامة. والنظام الصحي (صدر عام 1423هـ) وضح هذا الالتزام في المادة الثالثة منه بما يلي:
- سلامة مياه الشرب وصلاحيتها
- سلامة الصرف الصحي وتنقيته
- سلامة الأغذية المتداولة
- سلامة الأدوية والعقاقير والمستلزمات الطبية المتداولة ومراقبة استعمالها
- حماية المجتمع من آثار أخطار المخدرات والمسكرات
- حماية البلاد من الأوبئة
- حماية البيئة من أخطار التلوث بأنواعه
- وضع الاشتراطات الصحية لاستعمال الأماكن العامة
- نشر التوعية الصحية بين السكان
هذه تسع مجالات رئيسية في رعاية صحة المجتمع، كل واحد منها موكول إلى جهة إدارية مختصة، وتكاد كل واحدة منها تعمل بشكل منفرد مهتدية بمواصفات ومعايير وضعتها جهات متخصصة ومنظمات عالمية لضمان سلامة أو فعالية استعمالها وحصول المواطن على منافعها. الانحراف عن هذه المعايير والمواصفات يقود إلى مشكلات صحية لا تصيب فردا بل مجموعات من الأفراد أو السكان. اكتشاف الانحرافات وإيقاف أضرارها أو النظر في تعديل المواصفات والمعايير بما يزيد منافعها الصحية هو مجال عمل الصحة العامة. وكل جهة تعمل بمقتضى اختصاصها، ولذا تختلف النتائج على الصحة العامة باختلاف أساليب العمل والرقابة والإمكانات وكفاءة العاملين ووعي الناس. إلا أن هنالك ما تجتمع عليه تلك الجهات باختصاصاتها المتعددة، ألا وهو إبقاء الصحة العامة في أعلى مستوى، واعتبار بروز أي مشكلة صحية لها علاقة بعمل تلك الجهات مؤشرا على خلل ما. من أجل ذلك فإن مبادرة وزارة الصحة بالدعوة لسبع جهات حكومية لإصدار إستراتيجية وطنية لإتباع نمط الحياة الصحية ينسجم مع هدف الحفاظ على صحة المجتمع وينطلق من وجود مشكلات صحية، ترى أنه يمكن الحد منها بإجراءات معينة أوصت بها منظمة الصحة العالمية أو نتائج الأبحاث العلمية. فمشكلة ارتفاع ضغط الدم وما يترتب عليه - إن لم يعالج - من مضاعفات على القلب والدماغ، يمكن الحد منها بدرجة كبيرة بتخفيض تركيز الملح في الدقيق. وانتشار نقص فيتامين د بنسبة 50% بين السعوديين بسبب قلة المشي والتعرض لأشعة الشمس يمكن الحد منه بزيادة النسبة المضافة إلى الألبان. ولنا أن نتصور الجدوى من مثل هذه الإجراءات، إذا عرفنا الفرق بين تكلفة تخفيض نسبة ملح الطعام في الدقيق - وهي زهيدة - وبين تكلفة علاج مضاعفات ارتفاع ضغط الدم على الكلى أو القلب أو الدماغ. وهذه الأمثلة غيض من فيض جعبة وزارة الصحة - على ما أظن. ولم تكن هذه المبادرة الأولى من نوعها. فقبل عامين عقدت الوزارة مؤتمرا كبيرا دارت مواضيعه حول أنماط الحياة الصحية، وقبل عشرة أعوام أطلقت برنامج الفحص قبل الزواج وأقامت للتعريف به ندوة الزواج الصحي، والهدف منه هو حماية النسل من أمراض وراثية من ناحية، ومن ناحية أخرى حماية شريك الزواج من انتقال عدوى. وربما كانت أهم مبادرة تخدم صحة الفرد والمجتمع، هي تلك التي أطلقتها الوزارة عام 1399هـ وما بعدها متمثلة في ربط إصدار شهادة الميلاد باستكمال التطعيمات الأساسة حتى وصلت التغطية بها 98% من الأطفال المستهدفين، وحمت البلاد والعباد - ولله الحمد - من أوبئة فتاكة. هذه المبادرات - والمبادرات التي أطلقتها الجهات الأخرى ولم أشر إليها - لم يكن ليحالفها التوفيق لو لم يكن هناك تعاون بين أكثر من جهة في تنفيذها. إلا أن التخطيط لأنشطة الصحة العامة المشتركة وإدارة التنسيق فيما بينها ينتظر في كثير من الأحيان انطلاق المبادرات من إحدى الجهات ذات الاختصاص. الاجتماع المشار إليه في خبر الصحيفة لعله يكون بداية انطلاق إلى عمل تنسيقي مؤسسي مستمر ومنتظم، ربما يأخذ شكل مجلس للصحة العامة، لا يتعارض مطلقا مع مجلس الخدمات الصحية الذي يمثل الجهات المقدمة للخدمة الصحية، وهو لا يحتاج إلى صدور نظام، وإنما إلى سكرتارية نشطة، وهدفه هو التنسيق بين الجهات ذات العلاقة بالصحة العامة، وهو ما تحتاج إليه تلك الجهات، فإنه كلما كانت جهودها منسقة ومتناغمة، كان تأثيرها أشمل وأعم وأكثر جدوى للصالح العام.