يرى المربي الأمريكي الشهير جون ديوي (1939) أن المدرسة صورة من المجتمع الذي توجد فيه وهو تحدث كثيرا في مؤلفاته عن حقيقة كون المدرسة بيئة اجتماعية خصبة يمكن أن يتعلم الطلاب فيها كيف يكونون مواطنين عادلين وديمقراطيين إذا ما تم بناء فلسفة المدرسة وممارسات أعضائها من معلمين وإداريين على أسس ديمقراطية ولديوي العديد من الكتب الممتعة السهلة
مثل المدرسة والمجتمع والتربية والديمقراطية. في المدرسة التي يدعو لها ديوي تكون وظيفة المعلم هو تنظيم الخبرات المعرفية ليتعلم طلابه الخبرات الاجتماعية والأكاديمية مع تعلم التقدير للمفاهيم الديمقراطية.
لكن الكثير من التحديات قد تطال هذه النظرة ليس أقلها أن المدرسة لا يمكن أن تكون مؤسسة ديمقراطية في مجتمع غير ديمقراطي.. المعارف المقدمة في المدارس ليست محايدة أنها تقدم ويسمح ببعضها بما يساهم في استمرار أوضاع معينة سواء كانت سياسية أو طبقية بل ربما في أحيان كثيرة قد تكون المدرسة نفسها من يكرس الممارسات غير الديمقراطية فلو نظرنا مثلا إلى المدارس الخاصة والأهلية وخاصة في المدن الكبرى لدينا لوجدنا أنها خاصة بفئات اجتماعية معينة قادرة على تحمل تكاليفها لكنها تكرس نظام الفصل بين الطبقات وتؤكده وبذا يرتبط أبناء المتنفذين الملتحقين بهذه المدارس ببعضهم من خلال علاقاتهم المدرسية وعلاقات والديهم ويكون لهم فيما بعد الحظوة في المواقع المهمة سياسية أو اقتصادية في حين تعزل الأقليات الفقيرة أو العرقية (سواء بسبب اللون أو العرق أو المذهب) في المدارس الحكومية التقليدية فلا يتمكنون بعد وصولهم الثانوية من الدخول إلى الكليات المهمة لضعف مهاراتهم في اللغة الإنجليزية والفقر الثقافي الذي عانوا منه بفعل فقرهم المادي فلم يطلعوا أو يقرؤوا أو يسافروا مثل ما يفعل طفل المدرسة الخاصة ومن ثم تقل فرصهم في الالتحاق بكليات مهمة مثل الطب والهندسة فيتساقطون تدريجيا خارج النظام ويظلون في دائرة الفقر كما هم أباؤهم وأولادهم من بعدهم ومن ثم تؤكد المدارس عبر تنظيماتها الإدارية اتجاهات عدم العدالة في المجتمع الذي توجد فيه.
أذن هل نسلم بواقع غير عادل ومبني على تمايزات طبقية واضحة ونسلم بأننا لا نستطيع مقاومة الواقع؟
كلا .. المعلمون من خلال قوة ما يفعلونه في الفصول الدراسية قادرون على تغيير العالم حتى بأقل الإمكانات . إنهم يسيطرون على أطفالنا خمسة أيام في الأسبوع لمدد لا تقل عن 3 إلى 4 ساعات ومن ثم فالتأثير الذي يحدثونه فيهم عميق وشاسع ولذا فلابد أن يكون لديهم رؤى تربوية وفلسفية واضحة تقود تعليمهم.
في هذا الصدد ترى العالمة الأمريكية (ماكسن جرين 1993) أن المعلم يمكن أن يكون ديمقراطيا إذا ما سمح لنفسه بسماع أصوات طلابه . الاستماع للطلبة يعرف المعلمين بما يفكر فيه طلابهم وبما يهمهم. حينما يتعلم المعلم تدريجيا أن (يعلم) نفسه كيف يستمع لطلابه فسيتمكن تدريجيا من خلق معنى مشترك يهم الطلاب لكافة الحقائق تاريخية أو علمية بحيث يصبح لها معنى اجتماعي وتاريخي يساهم في تغييرهم وتغيير مجتمعهم . جرين ترى بأن المجتمعات والناس غير ثابتة وأنها في حالة من التغير المستمر وأن العقل البشري يمدنا بأدواته الساحرة للتعلم وعلى رأسها التفكير الناقد والقدرة على التخيل وترى أن هدف التعليم يجب أن يكون في البحث عن أسئلة جديدة حول أنفسنا وما يحيط بنا مما يجعلنا نرى المعارف والمعاني من زوايا متعددة وليس فقط ما تفرضه الكتب المدرسية.
هل يفكر أي من معلمينا في فكرة التخيل أصلا؟ لا أظن؟
لماذا يبدو التخيل مهما؟
لأن الطريقة العلمية لحل المشكلات مبنية على التخيل لفرض فرضيات مختلفة للوصول إلى حل معضلة أو مشكلة ما أو تساؤل. قد لا تكون هذه الفرضيات واقعية لحظة افتراضها وتخيل العلاقات بينها لكنها مهمة لتطوير العلم فمن كان يتصور يوما ما أن كل الناس في كافة أرجاء المعمورة قادرون على التواصل مع بعضهم دائما وفي أي وقت بواسطة الإنترنت وقل ذلك على كافة المخترعات أو اكتشاف الكواكب إلخ. لكن طبعا حين نتكلم عن الخيال فنحن نعني الخيال العلمي أي المبني على معرفة مسبقة فأينشتاين مثلا حين بسط فكرة الجاذبية الأرضية عبر سقوط التفاحة فأن هذه الفكرة جاءت بعد مئات المحاولات والدليل أن ملايين الناس ومنذ ظهرت البشرية وهم يرون الأغصان والتفاح وكافة الثمار تتساقط من أشجارها ولم يتوصلوا إلى مفهوم الجاذبية الأرضية كما فعل أينشتاين بحكم ما جمعه ودرسه حول ظاهرة الجاذبية!!
الفكرة في العلاقة بين المدرسة والمجتمع كما ينظر لها الكثير من الفلاسفة الأمريكيين تحديدا هو أن المجتمعات في حالة من التغير المستمر وأن المعارف التي نصل إليها في أي حقل ليست محايدة بل هي تخدم مصالح من يسيطرون على المؤسسات المختلفة وصناع القرار ولذا فقد تعمل المدرسة على تأكيد التمايزات والفوارق الطبقية والثقافية بدل خلق مجتمعات ديمقراطية وما نحتاجه هو خلق طلاب مفكرون وقادرون على التخيل خارج الصندوق الصغير المسمى الفصل الدراسي .
هل هناك أية مواد في كليات تدريب المعلمين لتعريفهم بأهم الفلسفات التربوية والاجتماعية المعاصرة وحثهم على خلق فلسفاتهم ورؤيتهم التربوية الخاصة التي تنعكس في أساليب تدريسهم وتعاملهم مع طلابهم؟ أشك في ذلك للأسف وأشعر بأننا على بعد مائة سنة ضوئية من تمكين المعلمين فلسفيا وفكريا.