مما كان شديد الانتشار في العصور السابقة الخرافات والشائعات والعمل بالحدس، وكان الناس يرون أن الطِّيَرَة (أي الاعتقادات والقرارات المُعتمِدة على التشاؤم من شيء ما) شيءٌ معقول ومقبول، حتى إن سادات القوم كانوا يؤسّسون الكثير من قراراتهم على الطِّيَرَة وعلى المعتقدات الخرافية والظنون التي لا تستند للعلم أو الحقّ، فمثلاً النعمان بن المنذر (أحد ملوك العرب في الجاهلية، وكان والياً للفُرس على العراق) كان له يومان، يوم بؤس، ويوم فرح، فإذا قَدِم عليه أحد في يوم فرحه أكرمه، وإذا أتاه في يوم بؤسه قتله! مسألة عشوائية استبدادية، ليس لها من العقل نصيب، ومع ذلك كان يطبّق هذا حتى على أصحاب المواهب مثل الشاعر الشهير عبيد بن الأبرص أحد شعراء المعلّقات، فقد قَدِمَ على النعمان، وصادف أنه كان اليوم الذي جعله النعمان يوم البؤس، فقتله، وضاعت موهبة شعرية بسبب خرافات المَلِك.
ومن ذلك قصة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه نَذَرَ (أي أوجب على نفسه) أنه إذا وُلِد له عشرة من الولد وبَلَغوا فإنه سيضحّي بأحدهم عند الكعبة، فلما اكتمل أبناؤه عشرة وشبُّوا وجاوزوا الحُلُم أراد عبد المطلب تنفيذ نذره بأن يقتل ولده (!)، ولما منعه قومه أصرَّ فاقترحوا حلاً: أن يزور عرّافة لتحل الإشكال (!)، وزارها عبد المطلب - هذا وهو سيد قومه المطاع - واستمع لها باهتمام ونفّذ اقتراحها.
نعم، إن الخرافات والاعتقادات المبنية لا على الحقيقة والعِلم الأكيد كانت شديدة الرّسوخ والانتشار سابقاً، ورغم أنها اليوم قلَّت إلا أنها ما زالت موجودة، ولكن هناك نظيراً لها: عندما لا يكون لدى المرء شيءٌ قاطع أكيد لكن حدسه يشير له. هذه غالباً لا أساس لها من الصحة - في رأيي - غير أن بعضها تَصدُق أحياناً، وهذا إذا حصل فلا أدري كُنهه ولا تفسيره. ومن أعجب ما حصل قصة حُلْم روبنسون.
روبنسون أحد أشهر الملاكمين في عالم الملاكمة، ويصنّفه الكثير من الناس أنه أفضل ملاكم في تاريخ هذه الرياضة، وحتى محمد علي أشهر ملاكم على وجه الأرض، الذي يُسمّى خطأً محمد علي كلاي، يوافقهم في ذلك، وقال أكثر من مرة إن روبنسون هو أفضل ملاكم في التاريخ.
عام 1947م كان من المفترض أن يلاكم روبنسون رجلاً اسمه جيمي. في الليلة التي تسبق هذا رأى روبنسون في الحلم أنه يقتل خصمه جيمي بالخطأ فاستيقظ من النوم وقد أزعجه هذا، وبعد بعض التفكير قرّر أن ينسحب من العراك، إلا أن هذه الملاكمة لم يبقَ عليها إلا ساعات معدودة، ولو انسحب روبنسون لفسد الحدث، ولخسر الكثير من الناس الكثير من المال، فأتى قِسّيسَين وأقنعا روبنسون بأن يمضي قُدُماً ويقاتل خصمه، وأن ما رآه لا يعني شيئاً، فاقتنع، وخاض معركة الملاكمة تلك، وانتصر فيها ببراعته المعهودة، وطرح خصمه فاقد الوعي بالضربة القاضية. إذا ضُرب ملاكم مثل هذه الضربة فالعادة أن يفقد وعيه ثواني ثم يفيق، أما جيمي فلم يفِق، وتوفي في تلك الليلة.
أمرٌ غريب! لكن تظل الأمور التي لا تعتمد على حقٍّ أكيد أو علمٍ قاطع أقرب للخرافة والباطل - في رأيي - إلا الحالات الشاذة كقصة روبنسون، فالله أعلم بها.