النظير الجمعي في الجبر هو الصفر، لأنّه حين يضاف لأيِّ عدد في خط الأعداد فإنّه يعطي العدد نفسه. وبالطريقة ذاتها نشأ العقل الإقصائي. فهو يشرع بتصفير خانة الآخر ليستبد على مساحة الحضور القيمي والكمي. فالإقصائي لا يَرَى سواه حقيقًا بالوجود والنمو. وباستغلال المبرّرات المنطقية والعلميَّة والدينيَّة يبني فوارقه التي تحرسه عن مساوقة الآخر المختلف والاشتراك معه بتحريك مكنة الحياة كضرورة طبيعيَّة لثراء التعدّدية ومحدودية اللون الواحد.
الإقصائية تنبني أولاً على انعكاسها المثالي في ذاتها التي لا تقبل التشكيك أو الأسئلة أو إعادة تقييم المواضع والمسافات، ثمَّ تنطلق لفرض هيمنتها بواسطة تهميش الآخر وتحقيره وتسقيط قيمه على الصعيد الاجتماعي أو ملاعنته وتكفيره على الصعيد الديني. لأن الإقصاء هو منشأ فوبيا الآخر المنافس حسب النظرة الأحادية التي ترتأي مركزية القرار وإبعاد المخالف.
وتتمظهر الإقصائية في أوضح آلياتها عبر تخوين الآخر واستعدائه والتوجس من مقاصده ونواياه حتَّى في أبسط ممارساته الفكرية والحياتية متناهية الصغر. حيث إن القاعدة التي يرتكز عليها الإقصاء هي وجود وجه واحد للحقيقة، وكل ما لا يَتَّفق معها هو باطل ويستحقُّ الاجتثاث والمحو من خريطة الوجود. وهذا ما يقودنا للمكارثية التي تجهز صدور الضحايا بعلامة فارقة لاستقبال أمر الإعدام، لأنّه بلا تصنيف لن يكون ثمة منهج للعملية الإقصائية.
وبهذا يلتغي التباين اللازم للتكاملية الموائمة للمنطق السليم ومبادئ الرسالة السماوية. فقد قال النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم في حديث نبوي صحيح بيَّن فيه تكاملية دور الأنبياء: «إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كرجل بنى بيتًا فأحسنه وأكمله وجمّله إلا موضع لبنة في ركن، ثمَّ طفق الناس يطوفون بالبيت يقولون ما أجمله وأكمله لولا تلك اللبنة.. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» (رواه البخاري). وهذا أبلغ توصيف لحتمية وجود الآخر الذي يُبرز باختلافه ملامح الحياة. غير أن العنصريات العرقية والإثنية والطائفية المستشرية غيَّرت وجه الواقع وبات الإنسان يتنازع السيادة وينظر لها ويتبع أساليب مسموحة أو محظورة لأجل تبرير العنف ضد الآخر، لأن المجتمع هو موضع تركيزي كناقل للأكسجين إلى عضلات الحياة. فإنَّ ثقافة الإقصاء الاجتماعي هي الأكثر توغلاً في مجتمعنا وأكثر ضررًا، لأنّها تشتغل على مقايضة قميئة بين الحب والتشابه.
ففي حال يكون فيه الحب هو المظلة التي تستوعب كل البشر دون اشتراط، صار «التشابه» هو حارس بوابة الحب والقبول التي تسمح بمرور المشابه وتنفى المختلف. فتشكَّلت شللية توافق الأفكار والأذواق، وتكافؤ الأزواج والقبلية وغيرها من أشكال الإقصاء الذي أعاق عمليات التنمية والاندماج المثمر.
هل لدينا حلٌ جذريٌّ لعلاج الإقصاء؟ هل سنشهد في المستقبل مجتمعًا يحتضن المختلف ويرعاه دون تذويبه في قدح الرأي الواحد؟
أترك لكم الجواب وقد أكتب عن العلاج لاحقًا.