الموقف الغربي بشقيه (الأمريكي والأوروبي) إزاء التصعيد العسكري في شبه جزيرة القرم من قبل روسيا، لا يعني أن قضية هذه الجزيرة الإستراتيجية على البحر الأسود هي انعكاس لصراع (روسي - أوكراني)، على خلفيات ما جرى في أوكرانيا قبل أسابيع، عندما قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بدعم مطالب المحتجين ضد الزعيم الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، إنما هناك أبعاد أخرى تهم كل الأطراف، بما فيهم المسلمون في جمهوريات الاتحاد السوفيتي سابقًا، وتحديدًا شعوب التتار المسلمين.
لذا فما يجري في شبه جزيرة القرم هو امتدادٌ لصراعٍ تاريخيٍّ ونزاعٍ سياديٍّ على الجزيرة، بين الروس، الذين يشكون ما نسبته (50 في المئة) من مجموع السكان، البالغ أكثر من مليونين ونصف، والأوكران الذين يتراوحون ما بين (25 - 30 في المئة)، بينما نسبة التتار المسلمين تقارب (25 في المئة). غير أن هذه النسب المتفاوتة، التي تبدو ظاهريًا أنها في صالح الروس لا تعني أن شبه الجزيرة روسية بالأصل، كما أن المطالبات الأوكرانية بالجزيرة لا تعني أنها تتبع أوكرانيا تاريخيًا، لأن القرم أصبحت ضمن جمهورية أوكرانيا بسبب قيام الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف (الأوكراني الأصل) العام 1954م، بإهداء هذه الجزيرة إلى موطنه الأصلي أوكرانيا في إطار جمهوريات الاتحاد السوفيتي آنذاك، خاصةً بعد عمليات القتل والتهجير، التي قام بها الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين في حق التتار المسلمين من أهل الجزيرة الأصليين العام 1944م، وكذلك بحكم أهمية مدينة سيفستوبول الساحلية، وهي الميناء الرئيس في القرم لمقر الأسطول الروسي في البحر الأسود، الذي تطل عليه شبه الجزيرة.
إذا نحن أمام قضية سياسيَّة لها أبعاد تاريخية تتجاوز الحقبتين القيصرية والشيوعية في روسيا، وترتبط بشكل مباشر في الشعب الأصلي، الذي استوطن شبه جزيرة القرم الحيويَّة، وهو الشعب التتري أو التتار، الذين استوطنوها في بداية العصور الوسطى حتَّى إن كلمة (القرم)، وهي الأقدم تعني (القلعة) بلغة التتار، كما كان لهم دورٌ عسكريٌّ بمساندة المغول في حروبهم المدمرة لأوروبا الشرقية وروسيا وآسيا الوسطى، خلال القرن الثالث عشر الميلادي. وبسبب هذه القوة التي اكتسبها التتار، وبعد دخولهم الإسلام في القرن الرابع عشر الميلادي استطاعوا حكم شبه جزيرة القرم بدولة (خانات تتار القرم)، وكانت عاصمة حكمهم (بخش سرايا)، ثمَّ تحوّلت إلى (المسجد الأبيض)، التي تعرف الآن بـ(سيمفروبول)، وراحوا يفرضون سيطرتهم على أجزاء من البلدان، التي تجاورهم كروسيا القيصرية، حتَّى إنهَّم أجبروا إمارة موسكو آنذاك على دفع الجزية.
في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح بدايات القرن السادس عشر الميلادي، انضمت دولة خانات تتار القرم للرقعة الجغرافية للدولة العثمانية، وبقيت على هذا الحال لمدة أربعة قرون، حتَّى دبّ الضعف في الدَّولة العثمانية، التي تراجع نفوذها في روسيا وآسيا الوسطى وشرق أوروبا، وبعد التحالف بين روسيا القيصرية والأوكرانيين، بدأ القياصرة غزو شبه جزيرة القرم، وكانت المذبحة المروِّعة في حق السكان التتار العام 1771م، ثمَّ واصلوا غزوهم وتقتيل الشعب التتري، وحرق الوثائق التاريخية وتدمير المعالم الإسلاميَّة، حتَّى نجحوا في احتلال الجزيرة وإسقاط دولة التتار العام 1774م، ومن ثمَّ إعلان ضم الجزيرة لروسيا العام 1783م، على يد الإمبراطورية الروسية كاترين الثانية، التي لم تتوقف عند هذا الحدِّ، بل قامت بإجراء استعماري من خلال تغيير التركيبة السكانية في الجزيرة، عندما دفعت بأعداد كبيرة من الروس للاستيطان بالجزيرة في مقابل ممارسة كل ألوان القتل والتعذيب والتهجير في حق الشعب التتري لشبه جزيرة القرم.
غير أن التتار المسلمين لم يستسلموا، فمع اندلاع الثورة الشيوعية البلشفية العام 1917م، أعلنوا قيام جمهوريتهم المستقلة، إلا أن الشيوعيين أسقطوها وأعدموا كل قادتها، وكرَّسوا وجودهم، إلا أنهَّم لاحقًا منحوا هذه الجزيرة حكمًا ذاتيًا في إطار الاتحاد السوفيتي العام 1920م. ولكن بسبب سياسات التهجير والتقتيل والنفي التي مارسها الاحتلال الروسي القيصري، ثمَّ الاحتلال السوفيتي الشيوعي انخفض عدد سكان القرم من تسعة ملايين تتري مسلم إلى قرابة 850 ألفًا العام 1945م، خاصة بعد قيام الشيوعي ستالين بتهجير أكثر من 400 ألف تتري من الجزيرة بعد اتهامهم بالتعاون مع النازيين خلال الحرب العالميَّة الثانية.
وبالرغم من أن السوفيت ألغوا القرار الذي يتهم شعب التتار بالخيانة، إلا أنهَّم لم يسمحوا لهم بالعودة إلى موطنهم الأصلي، لذا بقي الوجود التتري في شبه جزيرة القرم ضعيفًا ومحدودًا في مقابل الوجود الروسي الكبير، أو الأوكراني، الذي تعزَّز بعد ضم الجزيرة إلى جمهورية أوكرانيا العام 1954م.
اليوم يعلن الروس تصعيدهم العسكري في شبه الجزيرة، بدعم كبير من برلمانها وسكانها والاستفتاء الشعبي الذي يأتي لصالحهم كي يضموها لروسيا، في مقابل الموقف الأوكراني الرافض للتصعيد العسكري أو الاستفتاء الشعبي، بحجة أن القرم أوكرانية.
وبيَّن هذين الموقفين يبدو الصاحب الحقيقي للجزيرة الحيويَّة وهم التتار، غائب تمامًا بسبب الضعف وقلّة الحيلة وتاريخ طويل من المعاناة.