يوم لا أنساه، والأيام المحفورة في الذاكرة كثيرة.منها المفرح، والمترح، ومنها المخيف، المُطَمْئِن.. كلها تتجاور في أعماق النفس بتناقضاتها الصارخة، ومتى عفت مع تطاول الزمن، جاءت المناسبات، كما السيول التي تجلي الطلول.
وتكريم العلاَّمة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي في أي محفل في مصر أو في السعودية يعيد لي يوماً تفصلني عنه ستة عقود، إنه زمن طويل، ولكنه لم يستطع طمس أحداث ذلك اليوم، فكأن بيني وبينها ساعة من نهار.
في صبيحة الخامس عشر من شهر صفر عام 1374هـ لملمت أطرافي المبعثرة، وغسلت وجهي المغبر، ولا أستبعد أنني استعرت عباءة وحذاء، ودفعت بكل هذه الملفقات إلي مكتب طيني صغير، يقبع في أقصاه رجل مهيب الجانب، تزينه وضاءة العلم، ويملؤه حنو المعلم. إنه العلاَّمة [محمد العبودي]، كنت يومها في السنة الرابعة الابتدائية، وكان لدى (المعهد العلمي) إذ ذاك مرحلة تمهيدية، تسبق المتوسط، ويُقْبل فيها المتفوقون، ليدرسوا في المرحلة التمهيدية.
لم أكن متفوقاً، ولكن والدي جار جنب لفضيلته، ومازال الرسول يُوصي بالجار، حتى كاد يورثه. نظر إليَّ كما لو كان يتقرَّى ملامحي، ثم دفع بي إلى المراقب، ليلحقني بالصف الأول تمهيدي، وكان حقي أن ألحق بالصف الثاني، ولكنه قوَّم أشيائي، ولم يقوِّم معارفي. فكان أن ضاع من عمري عام دراسي. هذا اليوم الاستثنائي في حياتي أدخلني إلى عوالم، لم أكن أعهدها من قبل.
وبعد سنتين أو ثلاث، جاءت زيارة [الملك سعود] - رحمه الله- إلى القصيم، ومن ضمن برنامجها زيارة المعهد، فكان أن تقلدت مكبر صوت، لأهتف بكلمة واحدة (يعيش جلالة الملك) يرددها من ورائي الطلاب المصطفون على جانبي الطريق. لقد مكثت أسبوعاً أردد هذا الهتاف، وأسبوعاً أطبقه، وساعة العسرة تلعثمت، فقلت:(يعيش جلالة الملوك) فكان أن سيئت وجوه المدربين، وارتبك المُردِّدون من ورائي، ولم يشف نفسي، ويذهب سقمها إلا تلك التلويحة الحانية من يد جلالته، مشعرة بالاستلطاف، مع نظرات مشفقة من خلف نظارة جلالته السميكة، ولكن الخوف ظل يساورني من مديرٍ يُقَدِّم بين يدي مساءلته للمخالفين والمقصرين صَفْعةً على خَدٍّ نحيف، وأحسب أنه لم يسمع ما سمع غيره، فمرت الحادثة بسلام.
لقد عودنا الانضباط والطاعة، وكانت له أياديه البيضاء في التأسيس للتعليم، وتعويد القراءة في (مكتبة المعهد) التي تعهد بإنشائها، وإمدادها، وكانت انطلاقتي القرائية منها، ومن (المكتبة العامة).
إنها ذكريات عذاب، وإن لم تكن على شيء من اليسار، ولا على شيء من رخاء العيش وآثار النعمة.
ويظل حَنِينُ الإنسان أبداً إلى زمن البراءات والتطلعات. فالراكضون في عقد السبعينات- وأنا منهم- يصحبون الدنيا بملل وضيق، وإن طال أملهم، وأحبوا دنياهم.
ولأن حديثي عن جانب من حيوات العلامة عميد الرَّحالين، فإنني سأضرب صفحاً عن الذكريات العذاب، والمقدمات المهمة من حياة الرحالة ، لأدخل إلى (أدب الرحلة) عنده.. ومعالي الأستاذ (محمد بن ناصر العبودي) عالم وأديب ومثقف، له اهتماماته التاريخية، والجغرافية، والأدبية، وله نشاطاته التعليمية والدعوية. ولقد اسعفته ظروفه العلمية والعملية، فكان أن استثمر كل لحظة من حياته، تَعَلُّماً وقراءةً وكتابةً.. ويأتي (أدب الرحلة) في مقدمة إنجازاته التأليفية كثرةً، واتساعاً، واشتهاراً. وإذ عرف (العقاد) مفكراً، وهو شاعر، فقد عرف(العبودي) رحالة، وهو العالم المتعدد الاهتمامات، والقدرات، والمؤلفات. ذلك أن عمله الرسمي تعانق مع اهتمامه بالرحلة وآدابها.
وقبل مباشرة الحديث عن هذا الفن السردي المعرفي، نود الإشارة إلى (أدب الرحلة)، بوصفه لوناً من ألوان السرديات، تتنازعه معارف متعددة، فهو كما الثقافة، يأخذ من كل شيء بطرف، إذ يكون تاريخاً، أو جغرافيا، أو علم اجتماع، أو علم سكان، أو سيرة ذاتية، أو ما شئت من أنواع السرديات العلمية والإبداعية. والرحالة وحده القادر على إعطاء (أدب الرحلة) عنده نكهة خاصة، تميزه عن غيره ممن كتب في هذا اللون.
فما(أدب الرحلة): فنيّاً وتاريخيّاً وموضوعياً؟.ومَنْ هم أعلامه؟ وما نصيب الحضارة الإسلامية من هذا القول السردي؟. وحديثي عن عَلَمٍ من أعلام هذا الأدب يقتضي اللمحة دون البسط، إذ لست بحاجة إلى الرصد التاريخي لهذا الفن، وفي الوقت نفسه لن أطيل الوقوف على الأبعاد الفنية وتحولاتها، ذلك أن (أدب الرحلة) واكب الوعي الإنساني، واختلط بعلوم: (الجغرافيا) و(التاريخ) و(السياسة).
ولم يكن علماً مستقلاً، وإن أشير إليه عرضاً في دراسة الأعمال أو الشخصيات.
لقد كان لكل حضارة نصيب من هذا الفن، ولا أحسبنا بحاجة إلى الدخول في ضوائق المفاضلة، أو الريادة. فالرحلة لصيقة بالإنسان، وحديثه عما لقيه فيها من نصب، وما شاهده من أشياء يأتي عفوياً.
والشعر العربي يفيض برصد ما يعانيه الشعراء المسافرون، في ظعنهم وإقامتهم. ولكن تسجيل معاناتهم، وما يتحدثون عنه من راحلة، ورحلة، وأطلال ومحبوبة، وموارد مائية، وجبال شاهقة، وأودية سحيقة غائرة الماء، كل ذلك واقع في صميم أدب الرحلة. ومطالع القصائد العربية القديمة لا تخرج عن وصف ما يمر به الشعراء، وما يقفون عليه من إقواء، وعفاءٍ، وأحْجارٍ، وملاعب، وأطلال، ومواقد، وبقايا معاطن. وهي معارف تقصاها دارسون ك (حسين عطوان) و(وهب رومية) وآخرون. غير أن ما نحن بصدده يختلف تماماً عن الرحلة في الشعر العربي، وعن المطالع الطللية، أو الخمرية.
فالشعر لا يحفل بالمشاهد والمواقف إلا بقدر ما تنطوي عليه من ذكريات مرّ بها الشاعر. ثم هو يتحدث عن الصحراء لمجرد أنها ظرف مكاني للقاء متخيل، أو حقيقي مع محبوبة حقيقية، أو وهمية.
و(أدب الرحلة) اتخذ مستويين إجرائيين: مستوى الرواية الشفاهية، ومستوى التدوين. والشفاهي سابق على التدوين، ولكل حضارة بداياتها الحضارية في عمق التاريخ، ولكل علم بداياته العفوية. فلقد كان الراحلون من كل نحلة، وعصر، وعنصر يتحدثون إلى بعضهم كما يقول الشاعر:
(أَخَذْنا بِأطْراف الأحادِيث بَيْننا.... وسَاَلتْ بأَعْناق المُطِيِّ الأباطِحُ)
وإذا عادوا إلى ديارهم، رووا لمن خلفهم ما لقوه في سفرهم من نصب. وقد يبالغون فيما يلقونه، ويشاهدونه. ثم إن المتلقين عنهم يعيدون ما سمعوه للمتعة، أو للاعتبار، فكان (أدب الرحلة) شفاهيّاً كأي بداية معرفية أو فنية، وحين بدأ التدوين، دونت العلوم والمعارف الجغرافية والتاريخية، واختلط (أدب الرحلة) فيها، ثم اتخذ سبيله إلى التميز والاستقلال، وما أن أسهم الرحالة في الكتابة حتى مالوا شيئاً قليلاً إلى (أدب الرحلة)، فكان أن تخلَّق هذا الأدب، كما الأجِنِّة في الأرحام، وامتاز عما سواه من فنون الكتابة.
والرحلة غير الاغتراب، فـ(المهجريون) وطائفة من (العقيلات) كما يسميهم النجديون، خرجوا من ديارهم للإقامة الدائمة أو الطويلة ، ومن ثم نشأ (الأدب المهجري) و(أدب الاغتراب)، وقد يتداخلان مع (أدب الرحلة).. و(الرحالة) غير (المهاجر) وغير (المغترب)، فالرحالة ينطلق في مهمة ليعود إلى بلده.
ولقد خَلَّفَتْ لنا كل الحضارات الإنسانية مخطوطات، يمكن أن تكون بدايات لهذا الفن السردي.
ففي كل حضارة، وعند كل أمة رحَّالون، ومغامرون. قيل إن كتاب (بوزانياس): (جولة في بلاد الإغريق) المؤثر الأول في (أدب الرحلة) وهو قد ظهر في القرن الثاني الميلادي، والحشد المعرفي لهذا الكتاب، لم يجعله المؤسس الأول لهذا الفن، بل جاء من بعده مؤرخون، وجغرافيون أسسوا لهذا اللون من السرديات، إذ خصوا (أدب الرحلة) بكتب مستقلة، لا تتسع إلا لما يدخل في هذا اللون من الأدب، حسب مفهومه الحديث، وفي القرن الرابع الميلادي تجلت التقاليد الأدبية (لأدب الرحلة)، كان ذلك على يد (كسينوفون) في كتابه (الأناباسيس) ، وميزة هذا العمل- كما يرويه المطلعون عليه- تتمثل في أمانة الوصف، واحترام القيم الفنية.
والراصدون لهذا النوع السردي، الحفيون به، يتعقبونه في مظانه حتى العصر الحديث، يرصدون التحولات السردية والدلالية، ويؤرخون لهذا اللون، ولرجالاته، ويصفون فنياته وموضوعاته. ولما جاء عصر النهضة، وأصبح معه(أدب الرحلة) نوعاً أدبياً متميزاً، له سماته وخصائصه وطرائق أدائه، نهض في تكوينه الرحالة، والمكتشفون، والمستشرقون، والمناديب، وذوو السفارة: السياسية، والدينية، والعلمية.وساعدت وسائل المواصلات والاتصالات المتطورة على توسيع قواعده ومشمولاته. ومن ثم أصبح هذا اللون أدباً وعلماً في آن ، وتعددت فصائل المهتمين به والمستثمرين له، وكاد يختلط بـ(اليوميات) و(المذكرات) و(الذكريات) و(السيرة الذاتية).
وفي خضم هذا الزخم، عرفت الآداب: (الأوروبية) و(العربية) عمالقة في (أدب الرحلة)، ومن تعقب ذلك عند من كتب عن (أدب الرحلة) عرفهم بأسمائهم، وبأعمالهم، وعرف الأهداف والدوافع والنتائج.
فطائفة من الدارسين ذيلوا كتبهم بمسارد للرحالة ولكتبهم، ولمن سبق من الدارسين لهذا الفن. والرحلة وسيلة وليست غاية، ومن الرحالة من حركته الأطماع السياسية، أو الاقتصادية، أو الدينية، ومنهم من استهوته الرحلة وحب الاطلاع، وقلَّ أن ينفك التدوين عن الأهداف والنوايا والرغبات: السيئة أو الحسنة، ولكن (أدب الرحلة) حين يصاغ باقتدار ينفصل عن خصوص السبب إلى عموم الفائدة، فيكون العمل إبداعاً إنسانياً، تمتد إليه الأيدي دون النظر إلى الدوافع والرغبات.
ولقد أومأ كثير من الدارسين إلى أنواع كثيرة في (أدب الرحلة) وإلى اهتمامات متعددة، جعلت هذا الأدب شيقاً ومفيداً، إنه أدب واقعي، يحمل رسائل معرفية، وإن كان ثمة إمتاع فإنما هو إضافة يوفرها تمكُّن الكاتب من لغته ومن فنيات السرد، هذا إذا استبعدنا (الرحلات السندبادية) ورحلات المغامرات التي تعتمد على الخيال، وقد تمتد إلى الخرافة أوالأسطورة. وهذا اللون لا يدخل فيما نحن بصدد الحديث عنه. ولأهمية (أدب الرحلة) فقد ألفت عنه كتب عدة تعمدت التأريخ لهذا اللون، أو التنظير له، أو الدراسة التطبيقية لبعض الرحالة ورحلاتهم.
أعرف من هؤلاء (شوقي ضيف)، و(حسين نصار)، و(الحسن الشاهدي) ، و(حسني حسين)، و(علي مال الله)، و(جورج غريب)، و(حامد النساج) ، و(عواطف نواب). كل هؤلاء ومثلهم معهم، لم يكتبوا أدب رحلة، ولكنهم درسوا هذه الظاهرة، ونظَّروا وأرخوا لها، أو درسوا كتاباً في الرحلة دراسة تطبيقية.
أما الرحَّالة الذين خلفوا للثقافة العربية والعالمية كتباً في الرحلة فأكثر من أن يُحصروا.
وممن اشتهروا في هذا الفن في القديم (ابن حَوْقل)، و(المَقْدسي) و(المسعودي) و(البيروني) و(ابن جبير) و(ابن بطوطة) ومئات غيرهم. وفي العصر الحديث (الطهطاوي) و(الآلوسي) و(عبدالله فكري) و(الشدياق) و(البستاني) و(طه حسين) و(هيكل) و(حسين فوزي) و(أمين الريحاني) و(أنيس منصور)، وأهم من ذلك كله من كتب في رحلات الحج، ولكل واحد طرائقه، واهتماماته، ودوافعه. فمن متعمد للتسلية، ومن مهتم بالفائدة، ومن متحرر من كل القيود، ومن ملتزم محتشم، ومِنْ كاتب بلغة أدبية، ومِنْ كاتب بلغة علمية.
أما على مستوى (أدب الرحلة) في المملكة العربية السعودية، فقد استوفى جانباً منه الأستاذ(عبدالله بن أحمد حامد آل حمادي) في رسالته الأكاديمية(أدب الرحلة في المملكة العربية السعودية)، وفيما يتعلق بأدب الرحلة عند [العبودي] فقد تقصاه الأستاذ(محمد بن عبدالله المشوح) في كتابه المطبوع حديثاً(عميد الرحالة محمد بن ناصر العبودي)، وممن كانت لهم كتب في(أدب الرحلة) من علماء المملكة العربية السعودية، وأدبائها، ومؤرخيها فهم: العلاَّمة(حمد الجاسر)، و(أحمد عبد الغفور عطار)، و(عاتق البلادي) و(عبدالعزيز الرفاعي) و(عبدالعزيز المسند) و(عبد القدوس الأنصاري) و(عبدالله بن خميس) و(علي حسن فدعق) و(فؤاد شاكر) و(محمد السديري) و(محمد عمر توفيق) و(يحيى المعلمي)، وآخرون.. وهؤلاء يتفاوتون في مستوياتهم واهتماماتهم، ولكنهم جميعاً لم يتميزوا بما كتبوا في أدب الرحلة، بمثل ما تميز به (العبودي) لا من حيث الكثرة العددية التي لم تُسْبق، ولا من حيث التقصي والشمول والتنوع، وقد يتفوق بَعْضُهم على بعض بأسلوبه، أو بتبويبه، أو بعمق ثقافته، أو بدقة معلوماته.
و[العبودي] الذي استهل أعماله التأليفية بدراسة (الأمثال العامية في نجد) تَخَطى هذا الاهتمام، وسَبَح في معارف متعددة، فكتب في الأنساب، والجغرافيا، والدراسات القرآنية، والتراث، والمعاجم ، وطبعت له عدة مؤلفات في مختلف المعارف، وفي عِدَّة أجزاء، منها (معجم بلاد القصيم) و(أخبار أبي العيناء) و(الأمثال العامية في نجد) و(كتاب الثقلاء) و(نفحات من السكينة القرآنية) و(سوانح أدبية) و(صور ثقيلة) وله عشرات المعاجم، وبخاصة معاجم الأسر، ولقد كرمته [ثلوثية المشوح] بمناسبة بلوغ مؤلفاته المئتين. وهو فيها توثيقي ممحص، يضرب الأقوال ببعضها، حتى تنقدح له الحقيقة. فعل ذلك في معجمه الجغرافي عن القصيم. وهو معدود من الموسوعيين، وليس من ذوي الاختصاص، ولكنه حين يكتب في فن ينازع المتخصصين إمكانياتهم. ويكاد (أدب الرحلة) عنده يغطي كل جوانب حياته، وينسي المتابعين جهوده العلمية والعملية، وإسهاماته المتعددة في مجالات متنوعة. والذين يلتمسونه في حقل معرفي، لا يأتونه من أقطاره، إنه عالم متضلع من التراث العربي بكل تنوعاته العلمية والأدبية. وانقطاعه للتعلم والتعليم وملازمته لكبار العلماء، وعمله معهم، مكنه من التوفر على الكتب والمراجع التي لم تكن في متناول أنداده. ثم هو رجل إدارة حازم، تقلب في عدة مناصب تعليمية ودعوية، وجاء اهتمامه ب(أدب الرحلة) بعد أن لحق وظيفياً بـ(رابطة العالم الإسلامي)، ومكنه عمله الدعوي من الرحلات المتواصلة، والمهمات الرسمية المقيدة بأداء المهمة الدعوية على أصولها، وما فضل من جهد أو وقت قضاه في المشاهدات، وتقصي جوانب الحيوات المتعددة لشعوب العالم، وتفحص المعالم، والآثار، والمتاحف، والمناظر الطبيعية، وأحوال الشعوب، ودياناتهم ومستوياتهم الحضارية، والمدنية، والاقتصادية. وهو راصد دقيق بعيد عن المبالغة والإغراق في الخيال، وأدبية النص عنده من تلك الخلفية المعرفية في أدب التراث وعيون الشعر العربي، وقد فاقت مؤلفاته المطبوعة في الرحلة مائة كتاب، وله مثل ذلك في غير أدب الرحلة، وبخاصة المعاجم، وجل هذه الكتب تمثل (أدب الرحلة) بحيث لم يسبقه أحد في حجم ما كتب في هذا اللون،ومن أسباب تألقه في هذا المجال سفارته المتنقلة، وتوفير كل الوسائل له، وشغفه الذاتي بالرحلة، وحرصه على تدوين كل ما يعن له من مشاهدات وملاحظات. ولقد قال عن نفسه ما يدل على دقة الملاحظة عنده، حتى لكأنه (الجاحظ) في عنايته بأبسط الأشياءومن ثم تراه يحتفي بكل التفاصيل، فإذا أقيم حفل تكريمي استوفى فقراته، وإذا ألقي خطاب ساق مجمله، وإذا جلس على مائدة ذكر ألوان الطعام فيها، وإذا دخل سوقاً ذكر طرائق بيعهم، وطرائف تصرفاتهم. ولقد تجلت في كتاباته العفوية والبساطة والتقريرية والنمطية والاهتمام بكل دقيق وجليل، فهو بين إقلاع، واستواء، وهبوط، واستقبال، وتوديع، وجولات رسمية، ورحلات خلوية إلى أطراف المدن، لا تقتصر على المواقع الدعوية، وفئات الدعاة، والقضايا الدينية، وجولات راجلة يقتطعها من وقت راحته، يدخل الأسواق، ويختلط مع الباعة، ولا يتحرج من السؤال عن أي ظاهرة، ينقب عن الآثار، ويتفحص المتاحف، ويستعرض المكتبات.
وكتاباته تتسم بالتسجيلية، وكأني به يرصد كل شيء في مذكرة محمولة في جيبه، حتى إذا خلا له المكان أعاد صياغة ما كتب والبسط فيه، ثم الدفع به إلى المطابع، لا ينظر إلا في ترتيب الأحداث والوقوعات، ومن ثم يحصل التكرار، وبخاصة عما يَعْرِض له من مواقف مُتكررة في المطارات والمطاعم والمساجد والأسواق. وإن كانت له إلماحات سريعة، يخلص بها من الرتابة والنمطية، وأكاد استبين محاور كتب الرحلات عنده، فهي تتحدث عن قضايا (الدعوة) و(الأقليات) و(الأجناس) و(اللغات) و(العادات) و(أحوال الشعوب) و(أطرافٍ من تاريخهم) و(جغرافية بلادهم) و(أنماط الحياة عندهم) و(الأزياء) و(تصميم المباني) و(أنواع المستعملات) و(أحوال النساء) و(عاداتهن) و(المأكولات) وكل ما يخطر على بالك، حتى (الفلكلور الشعبي) حتى (الغناء) و(المغنين) الذين لا يعنيه من أمرهم شيء، ولكنه إذ فرض عليه السماع أشار إلى شيء مما عندهم، وإن لم يهتم بالاستماع، وقد يشير إلى (الرَّقَصات الشعبية) وغيرها، ثم لا يجد حرجاً من التعرض لها على سبيل الوصف، وقد يُمْعِن في وصف النساء وأزيائهن ومُحادثاتهن ببراءة وعفة، ومع كل ذلك فإن المحرك الرئيس عنده هو هموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ولأنه يمارس في رحلاته عملاً رسمياً فقد استوفى في كتبه تلك الأعمال، تحدث عن (الجمعيات) و(المنظمات) و(جماعات تحفيظ القرآن) و(إعداد الدعاة والأئمة)، كما فصل القول عن الاجتماعات والمؤتمرات واللقاءات، وما دار فيها، وعن الكلمات التي ألقيت، وعن الترحيب الذي يلقاه، وعن المهمات التي أنجزها، ولا أشك أن نِثَار الآراء والأفكار والمواقف يُشكل خصوصية في أدائه السردي، ولكن كثرة أعماله، وتركيزه على قضايا الأقليات يُفَوِّت على المتابع الوقوف على اللمحات الكثيرة، أو بمعنى آخر الجوانب الأخرى التي لا تسمح مهماته الرسمية الوصول إليها، وقد يضيق المتابعون باحتفائه بالوقوعات العادية المتكررة في كل رحلة. وأسلوب الكاتب يَتَّسِمُ بالوضوح والسلامة، والميل إلى التقريرية، وأشواطه الدلالية تعتمد التجزيئية، وله استطرادات قصيرة - كما وصفه - أحد دارسيه. ولأن [أدب الرحلة] عنده واكب السفارة الرسمية، ومتابعة أحوال المسلمين والأقليات الإسلامية في آفاق المعمورة، فقد ارتبطت القضايا والموضوعات بذات الرسالة أو كادت، ومع أننا لا نُسلِّم بذلك على إطلاقه، إلا أننا نجد همه منصباً على قضايا المسلمين والأقليات منهم.
بدأ العبودي الرحلة والكتابة فيها منذ خمسة عقود، وخلال هذه المدة طاف أرجاء المعمورة، ولم يتمكن غيره مما تمكن منه، فالذين كتبوا في (أدب الرحلة)، كتبوا عن رحلة امتدت شهراً أو شهرين لبلد سياحي أو دولة اقتصادية، أما هو فقد امتدت معه الرحلات أكثر من خمسين سنة، وأتت على ما أتى عليه الإسلام، حتى لقد أوغل في البلاد الشيوعية التي لم تكن تسمح بأي تحرك إسلامي، ولعل تسامحه، وبعد نظرته، ودفعه بالتي هي أحسن، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة فتح له الحدود والقلوب، ولما يزل لا يحط من سفر إلا إلى سفر، ولاهتمامه بأدب الرحلة، فقد أعطى نفسه مزيداً من الجهد والوقت ليتعرف على كل شيء. لقد وقف على طبائع الدول، والمدن، وأهلها، وما فيها من أنهار، وجبال، وأودية، وأعراق، وعقائد وعادات، وما هي عليه من غنى وفقر، وما هو نظامها السياسي، كما تَقَصَّى مشاكل الأقليات، حتى لقد نيفت مؤلفاته في أدب الرحلة على مائة وعشرين كتاباً، ولقد شدني من كتبه أولها (أفريقيا الخضراء) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1384هـ وكان الأوسع والأدق والألصق بأدب الرحلة، وهو فيما يكتب يعتمد العناوين الجانبية، فله مشاهدات تسجيلية، وملاحظات نقدية، وتساؤلات تعجبية، ومعلومات نقلية، ولا يكاد ينفك من الحديث عن الوسيلة من طائرة، أو سيارة، أو باخرة، أو قطار، أو سيارة أجرة، وقد يتحدث عمن يقود تلك الوسائط أو يخدم فيها. وحتى الحفلات، والاستراحات، والوجبات، والجلسات الخاصة، أو العملية، والفنادق، والمساجد، والمتاحف، والجمعيات. يفصل القول فيها، وقل أن يترك الرصد التاريخي والسياسي للدولة، أو المدينة التي يزورها، يتحدث عن نباتها وتصميم مبانيها وطبها الشعبي وعادات الزواج وشعائره والأعياد ومناسباتها، وملابس الرجال والنساء، وما لا يخطر للقارئ على بال. ويكاد يكون الحديث عن الإسلام والمسلمين محور الحديث في كل ما كتب في رحلاته، وهو حريص على اللطائف والمثيرات، يرصدها، وقد يبالغ في تعميق أثرها، وبالذات عند حديثه عن النكسات الاقتصادية، كقوله في كتابه (صلة الحديث عن أفريقيا) (الدجاجة بتيس والتيس ببقرة) فالعنوان لا يوحي بمضمونه، ولكنه يشوق إليه، وله نظرات ثاقبة في أحوال الشعوب وطبائعهم، حتى لكأنه موكل بكل دقيق وجليل في حياة من يرى، ويجالس، ويحادث. يقول في كتابه (غيانا وسورينام): (ومن أهم ما يميز الهنديات الأمريكيات عن الهنديات الآسيويات كثرة ابتسامهن للرجال،بساطة طباعهن، وإسراعهن إلى الاستجابة للحديث) ص96. وهو يخص المرأة بأكثر من إشارة، لها أكثر من معنى، وفوق ذلك فهو كثير التفصيل في وصف التحركات، ويكاد (أدب الرحلة) عنده يتحول إلى سيرة ذاتية في كثير من أحاديثه. وهو بهذا الاستطراد والتنويع يراوح بين (اليوميات) و(المذكرات) و(الخواطر) و(السيرة الذاتية) و(أدب الرحلة)، وقلّ أن يخلو أي كتاب من صور (فوتوغرافية) ملونة، يكون فيها بين مودعين، أو مستقبلين، أو مشاركين في رحلة برية أو مهمة رسمية، يصور الأنهار والجبال والأودية والمساجد والأسواق والآثار، وكل ما هو ملفت للنظر، وقل أن يخلو كتاب من حديث عن مسجد، يذكر بانيه ومصممه، وما فيه من زخارف، وقد يتحدث مع إمامه ومؤذنه، ويتعرف على ما يمارس فيه من البدع، إن كان ثمة بدع، وحين يَصْرفه المُرَافِقُ عن شيء من ذلك، يلح بطلب الوقوف على كل شيء، وإن كان لا يقره، بحيث يصرف المثبط بقوله: -(إنني أحب أن أطلع عليه فالاطلاع مهم في هذه الحالة التي ربما تكون فرصة ولو في المستقبل بتبصير هؤلاء المخرفين المنحرفين) ص88 من كتاب (في شرق الهند) وهو يوزع كتبه إلى مجاميع حسب القارات أو التكتلات السياسية (أفريقية) و(أوروبية) و(هندية) و(آسيوية) و(أمريكية جنوبية) و(بلقانية) و(أسترالية) و(روسية) و(سيبيرية) وكيف لا يصنفها إلى مجاميع جغرافية، وهي تنيف على المائة كتاب، وكل مجموعة تنيف على عشرة كتب، وأحسب أن (رحلاته الهندية) تفوق كل رحلاته، فهي تفوق العشرين كتاباً، طاف بها شرق الهند وشماله وبلاد الهند والسند، وهو يطلق على كتبه مسميات أخاذة، ففي رصده لرحلاته إلى (مولدوف وأرمينيا) يطلق عليها (مواطن إسلامية ضائعة) أو (تائه في تاهيتي) أو (من بلاد القرنشاي إلى بلاد القيرداي) أو (سطور من المنظور والمأثور عن بلاد التكرور)، وهو في اختيار العناوين وتركيب العبارات ذو أسجاع مستساغة.
والعبودي من الكتّاب الذي يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما فيه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية وكسبية، فالمؤلف عالم بالتراث، ومؤلف قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً ولا اجتماعياً، ولا سياسياً، ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين. والمؤلف متوفر على القيم العلمية والأدبية، ولكنه توفر عفوي، واللغة التي يعتمد عليها، ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها إلى التزوير، ولا إلى التنقيح، ولكنه يكتب على سجيته، وكأنه يتحدث إليك، وذلك سر الإكثار وسر القبول، فلو كانت له عناية لغوية، أو أدبية، أو معرفية، لقل عمله، وانفض سامره. ومع العفوية فقد احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الرحالة.
وإذ لا تقدر على تصنيفه من بين الرحالة فإنك لا تجد منهجية محددة، ولا خطة في التأليف صارمة، يدون ملاحظاته، ثم يعود إليها ليبسط القول فيها، وخطة الكتابة عنده مرتبطة بتنقلاته، ومنهجيته تراوح بين الوصف والتحليل والنقد والسرد الحكائي. وهو الراوي والبطل، وقل أن يتحدث بضمير الغائب، أو أن يدع لمتحدث آخر ليأخذ زمام المبادرة إلا ما يأتي من حوار.
ومهما اختلفنا معه أو اتفقنا فإنه الرحالة المتمكن من آلياته، الشمولي في تناولاته، المضيف في معلوماته. لقد ترك للمكتبة العربية والعالمية وثائق معرفية متعددة، قلَّ أن تكون حاضرة المؤرخين أو الجغرافيين، وهو بما خلَّف من معارف، وأنجز من أعمال، وقام به من مهمات تعليمية ودعوية جدير بالتكريم. والاحتفاء به يعبر عن مشاعر العلماء والأدباء والقراء، فالعلامة معالي الشيخ [محمد بن ناصر العبودي] علم من أعلام التربية والتعليم ومن الدعاة المعتدلين ، ومن العلماء المتمكنين، ولما يزل ثر العطاء، تختزن ذاكرته مشاريع معرفية متعددة، وكتاباه في الأمثال والجغرافيا خير شاهد على توثيقه وتقصيه.
ولمكانته العلمية والعملية وجهوده الدعوية تم تكريمه من قبل عدد من المؤسسات منها: [نادي القصيم الأدبي] و[ثلوثية المشوح] و[خميسية حمد الجاسر] و[المهرجان الوطني للثقافة والتراث] و[مركز ابن صالح] والدراسة التي أعدت لصالح [كرسي الأدب السعودي] بجامعة الإمام.وها نحن الآن نلتقي في القاهرة لنعيد قراءة ادب الرحلة والمعجمة والسرديات السيرية وغيرها عند العلامة الموضوعي، فلكافة المنظمين والممولين وافر الشكر وعظيم الإحترام. وقد كان لي شرف الحديث عن المحتفى به في كثير من تلك المؤسسات.