أحياناً يشاء الله أن يحدث حدث مفاجئ لم يكن في الحسبان لا من قريب ولا من بعيد، يهز المشاعر، ويحرك النفوس، ويذكر بحقيقية الدنيا، وينذر بقرب الرحيل، ويتعدى مدى الحدث العائلة الصغيرة بل وحتى الدائرة الإنسانية المحيطة بها ليُسمع بشر كُثر قد لا يعرفون هؤلاء الناس الذين وقع عليهم قدر الله من قبل.
وفاة أبناء معالي مدير جامعة الجوف الأستاذ الدكتور إسماعيل البشري الخمسة إثر حادث مروري مفاجئ السبت الماضي رحمهم الله رحمة واسعة وأسكنهم فسيح جناته ورزق والديهم وأهليهم وذويهم وأصدقائهم وأحبابهم الصبر والسلوان وأعاننا على ما أعانهم عليه، هذا الحادث المؤلم هو من هذا النوع الذي يقول لنا بلسان الحال لا المقال كونوا على استعداد لحوادث القضاء والقدر التي يجريها الله عز وجل على عباده ابتلاء وامتحانا وإن كان هو أرحم بنا من الأم بولدها.
دائرة البلاء في حس المسلم تتسع وتتنوع وكلما زاد إيمانه كان الابتلاء به أشد، قد يبتلى الواحد منا بالخوف أو الجوع أو المرض أو فقد الأحبة أو بالولد أو بالمال أو... وعزاء المؤمن أن الله يأجره في كل مصيبة تحل به حتى الشوكة يشاكها يكون له بها أجر.
مشكلتنا بصدق أننا ركنا للدنيا كثيراً، وأعجبنا المقام بها، ودغدغ مشاعرنا طول الأمل، واستبعدنا القدر، فكان ذكر الموت قليل في أحاديثنا، نادر في مجالسنا، نخاف من مجرد مروره بخواطرنا ولو للحظات، ونهاب مناقشته والخوض فيه والتأمل فيما بعده، ولذلك استوحش بنا الطريق، وعشنا بعيداً عن تذكر حقيقة وجودنا ومراحل حياتنا بدءاً من مرحلة البطن «الظلمات الثلاث» مروراً بالدنيا ومن بعدها حياة القبر وصولاً للدار الآخرة التي قال الله عنها {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
الرهان الحقيقي هو من سيضحك في النهاية، والمنافسة الصادقة التي بالفعل توجب التحفز والمسابقة هي البحث عن الفوز برؤية وجه الله الكريم والشرب من حوض نبيه العظيم وسكون الفردوس الأعلى في الجنة، وتربيتنا على الإيمان بحتمية التغير الذي هو سنة يجريها الله على الفرد والمجتمعات، واستشعار قرب الموت، وسرعة تصارم أيامنا على وجه هذه الأرض تحتاج منا إلى إعادة نظر حتى نكون مستعدين لتقبل القدر كما أراد الله لا كما نحب نحن أن يكون.
وحتى لا أفهم خلاف ما أعتقد به أرى لزاماً علي هنا أن أؤكد على أنني لا أعني التنسك المطلق وعدم السعي في الأرض كما أمر الرب سبحانه وتعالى بل قصدت تحقق التوازن في حياتنا فهو أمر هام جداً.. لا نغلب جانب الرجاء على الخوف ولا الخوف على الرجاء حتى نتملك ركيزتي الأمانة التي حملنا الله إياها في عمرنا الدنيوي (عبادة الله أولاً وعمارة أرضه التي هي محل استخلافنا ثانياً)، ولذلك كانت مثل هذه الحوادث التي تهز وتسمع وتذكر غافلنا، وتنبه عاصينا، وتوقظ نائمنا، وتعلم جاهلنا، فهل ندرك..من نحن..ولماذا خلقنا..وكيف لنا أن نظفر في وعد الله وننجو من موعده وما هي معززة الإيمان الحقيقي في معتقداتنا القلبية وأقوالنا اللسانية وأفعالنا الجسدية ؟؟؟!!.
معالي الدكتور
إني أعزيكَ لا أني على ثِقَةٍ
منَ البَقاءِ ولكنِ سُنَّةُ الدِّينِ
فما المُعزَّى بباقٍ بعدَ صاحبِهِ
ولا المُعَزّي وإن عاشا إلى حينِ
رحم الله أمواتكم وأعانكم وصبركم ورزقنا وإياكم حسن الختام وإلى لقاء والسلام.