خلقت الهيئة الملكية بالجبيل وجهة سياحية آمنة لسكان المنطقة الشرقية، جمعت فيها بين الترفيه، والمعرفة، والثقافة التقنية، والتراث الجميل. صناعة الفرح فن أصيل؛ يحتاج إلى إبداع، وجهد استثنائي، وإنفاق غير ربحي لخدمة المجتمع، وإشاعة البهجة، وتوفير قنوات مساندة للأسر المنتجة التي تجد في المهرجانات فرصاً تسويقية نادرة، تساعدها على الكسب الحلال، وتنمية مشروعاتها الصغيرة، وغرس ثقافة الإنتاج لدى الأبناء والبنات وعامة الزوار.
نجح المهرجان في استقطاب أكثر من 300 ألف زائر منذ انطلاقته القريبة، بالرغم من تزامنه مع مهرجانات الربيع في المنطقة الشرقية، وفتح باب المشاركة الفاعلة لأكثر من 180 أسرة منتجة، من خلال توفير الأكشاك المجانية لعرض منتجاتهم، وتسويقها للزائرين. إيجاد فرص تسويق آمنة للأسر المنتجة، وتدريبها، وتشجيعها على الإنتاج، أحد أهم أهداف المهرجان، ويفترض أن يكون على رأس أهداف التنمية في جميع محافظات المملكة. دعم الأسر المنتجة يمكن أن يسهم في إشاعة ثقافة الإنتاج لدى الأبناء والبنات، وهي ثقافة تسببت المدنية والمتغيرات المجتمعية في اندثارها.
دعم الاقتصاد الأسري يمكن أن يمر من خلال ثقافة «الإنتاج المنزلي» الذي يمكن أن يؤمّن للأسرة وأفرادها دخلاً جيداً، يساعدها على العيش الكريم. التقيت في إحدى زياراتي الربيعية للسوق الشعبي في محافظة «النعيرية» بامرأة مسنة، تعرض مشغولات يدوية، وبعض المنتجات الغذائية المنزلية، فتفضلت عليّ بقصتها المؤثرة، وكفاحها الجميل. وذكرت المرأة أنها فقدت زوجها فتفرغت لتربية أطفالها، وتعليمهم، والإنفاق عليهم من خلال منتجاتها اليدوية. لم تمد يداً، ولم تسأل الناس إلحافاً، وهي المحتاجة شرعاً لإنفاق المحسنين. نجحت تلك المرأة القوية في المحافظة على أبنائها وتربيتهم، وتعليمهم، والوصول ببعضهم إلى درجتَيْ الماجستير والدكتوراه. قصة كفاح بطلتها امرأة، استعانت بالله، ثم اجتهدت في الإنتاج المنزلي الذي أمَّن لها مصدر الكسب الكريم، وساعدها على تحقيق أهدافها البسيطة التي تحولت إلى مخرجات عظيمة بفضل الله وبركته.
نشر ثقافة الإنتاج الأسري يمكن تحقيقه بسهولة من خلال التنظيم والاحتضان، وتوفير قنوات التسويق والرعاية الشاملة، وقبل ذلك الإرادة القوية التي لا يمكن تحقيق النجاح دونها. البحث عن الأسر المنتجة في المهرجانات بات هاجسي الأول، فوجودهم يعني زيادة وعي الجهات المنظمة بحقوق المجتمع، وإقرارهم بالمسؤولية تجاههم، ويعني أيضاً خلق بيئة حاضنة للإبداع والإنتاج والعمل الكريم، إضافة إلى انتشار ثقافة العمل والإنتاج، في مقابل وأد ثقافة العيب التي تسببت في ظهور أجيال مستهلكة، وغير قادرة على الكسب والعمل.
تقوم برامج «الأسر المنتجة» في الأساس على قاعدة الدعم، والرعاية الشاملة من المؤسسات الحكومية والخاصة، التي تحرص على مساعدة الأسر في تحقيق الربح الذي يساعدها على النمو والاستمرار؛ لذا لم أُفاجأ بالتزام الأمير سعود بن عبدالله بن ثنيان، رئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، بتعويض الأسر المنتجة عن أي خسائر، ربما تعرضوا لها من جراء الأمطار المفاجئة التي هطلت خلال أيام إقامة المهرجان.
«قرية أزميل التراثية» شكّلت إحدى الوجهات الرئيسة لزوار المهرجان. قرية مصغرة، ضمت غالبية الأنشطة التراثية التقليدية، بدءاً من الكتاتيب، والسوق الشعبية، والحرف اليدوية، الغوص، واستخراج اللؤلؤ، والملبوسات التراثية، والأسلحة القديمة، وأركان لصناعة السفن، وحياكة البشوت والسيارات القديمة، إضافة إلى المتحف الثري بمحتوياته النادرة. استوقفني أصغر المرشدين السياحيين وهو يثري زوار المتحف بمعلومات غزيرة عن اللؤلؤ، وطرق استخراجه، وتكونه، وتجارته التي سادت ثم بادت لأسباب مختلفة. حقيقة، لم أكن أعلم آلية اكتساب اللؤلؤ، وألوانه النهائية، لولا شرح (مرشدي) خالد عبدالرحمن الجبر الذي تفضل عليّ بمعلوماته المتدفقة المغلفة بثقة الرجال. علمت فيما بعد أن مرشدي خالد ما زال طالباً في الثاني المتوسط، وقد منَّ الله عليه بحفظ 24 جزءاً من القرآن الكريم. هو (طواش) نادر، أنار الله بصيرته، فاستحق أن يكون مركز «القرية التراثية» ومفخرة الجبيل.
مهرجان ربيع الجبيل دمج بين الترفيه والمعرفة، وخلق وجهة سياحية فريدة، ونجح في تحقيق أهدافه، وأشاع الفرح بين سكان الجبيل والمنطقة. وكم كنت أتمنى أن تستمر الهيئة الملكية بالجبيل في دعم الأسر المنتجة، وأن تشركهم في مناشطها المتعددة، وأن تعتمد عليهم في توفير بعض الهدايا التراثية والأطعمة التقليدية لزوارها ولمناسباتها الرسمية، وأن تُبقي في الوقت نفسه على «قرية أزميل التراثية» التي يمكن أن تتحول، بقليل من الجهد، إلى مركز ثقافي للمدينة.
الدكتور مصلح العتيبي، الرئيس التنفيذي، أشار في تصريحات صحفية إلى أن «الهيئة تدرس استمرار القرية الشعبية»، وهو أمر أتمنى تحقيقه لما فيه من فائدة ثقافية، وإضافة سياحية فريدة للجبيل الصناعية.