كنت أجلس في مطار نيويورك في انتظار طائرتي إلى السعودية.. أتأمل ما حولي وأكتب ملاحظاتي.. ركض طفل صغير.. وبدا من ملامحه وطريقة لبسه.. أنه عربي بامتياز (كيف يمكن ملاحظة ذلك؟.. هذه ملاحظة أخرى للفروق في طريقة اللبس بين العرب وغيرهم، الكثير يمكن أن يقال عن ذلك).
لحق الأب بابنه مردداً: توقف .. توقف أحمد ... الطفل الصغير استمر في الركض.. في حين استمر الأب في إعطاء ملاحظاته بصوت مسموع قائلاً: توقف أحمد.. لا يجب أن تسرع.. المشكلة كانت أن الأب في الحقيقة لم يكن ينظر إلى أحمد وهو يتكلم ... كان ينظر في كل الاتجاهات عدا أحمد.. كان الأب ينظر إلينا.. إلى كل المحيطين به في الصالة ليلاحظ ردة فعلهم على ما يقول وأظنه كان يفكر هل نقيم ملاحظاته الموجه لابنه بالشكل المتمدن الذي يجب أن يتطابق مع سلوك عربي في مطار نيويورك حتى نلتقط عنه الصورة المتوقعة للأب الهادئ الموجه للطفل الصغير وبالشكل الحضاري الذي يتوقعه كل من في الصالة.
لم يكن الأب ينظر إلى الصغير... إلى عينيه... إلى ردة فعله على التوجيهات أو إلى الهدف من التوجيهات التي كان يسردها على طفله وهي النمو والتعلم والتغير لهذا الطفل الصغير... لا للأسف لم يكن الأب ينظر إلى الطفل أو إلى نتائج توجيهاته لطفله....كل ما كان ينتظر كما فهمت من خلال حركته.. هو: ردود فعلنا نحن المحيطين به في صالة الانتظار لما كان يقوله ويفعله مع طفله الصغير لا ما سيحدثه ما يقول بالطفل الصغير.
هل يمكن أن ينعكس السلوك الشخصي لفرد ليعكس السلوك الثقافي لأمة بأكملها؟.. هذا ما يثير الحيرة ويدفع لكل الأسئلة الفلسفية؟.
هل نحن كأمم نعكس في سلوكنا الجماعي قيم ومفاهيم تحكم أيضاً سلوكنا الفردي؟.. فكر للحظة بكل هذه الخطب العصماء التي لا يقصد منها أي تغيير حقيقي في حياة الشعوب. فقط لا رضاء من يسمع من المواطنين لكن ليس لتغيير حقيقي في حياتهم.
ما أشبه ما يقوم به هذا الأب مع طفله بما تقوم به حكوماتنا العربية مع شعوبها: ترفع صوتها بالكلمات العظيمة التي تلتقطها أجهزة الإعلام لتردد ما يجب أن يسمعه الناس في العلن ويتوقعونه لكن داخل الأجهزة تبقي السرية وعدم الشفافية وعقد الصفقات وتنتشر المحسوبية والفساد وتعجز مؤسسات الدولة عن زرع مفاهيم المشاركة أو الديمقراطية أو المشاركة الشعبية وهي مجرد أصوات مفرغة من معانيها الفعلية لأن الحكام فعلاً لا يقصدونها وإنما فقط يلبون ما يتوقعون أن الآخرين دولاً وحكاماً وشعوباً يتوقعونهم أن يفعلوا.
هل نفعل ما هو متوقع أن نفعله؟ أو أننا نفعله لأنه خير وجيد لوطننا ولما يحيط بنا؟..
مثلاً: لا يمكن أن تحدث تغييراً في توجه الناس إلى انتخاب المجلس البلدي بإرادتهم لانتخاب من يرون أنه أحق بالانتخاب بغض النظر إذا كان من قبيلتهم أو ممن يعرفونه إلا إذا كانوا فعلاً يهتمون بما يحدث في حيهم من غير أن ينتظروا مديح جارهم أو ابن عمهم على من ذكرهم في أحد المجالس! هذا ما يحدث مع هذا الطفل الصغير.. والده بالطبع يحبه ويعتني به لذا كان يريده أن يكون كما يتوقع الآخرون المحيطون به وبالطفل؛ لكن الأب لم يكن يوجه ملاحظاته ويقصد بها بشكل كامل توجيه الطفل بل ما أشغل ذهنه أولا وقبل الطفل هو: ماذا سيقول الناس عني وكيف سيرونني ويقيمونني من خلال هذا السلوك في مكان عام؟.
مقابل ذلك تماماً.. وقفت أم أجنبية تحدث ابنتها الصغيرة التي كانت تبكي بشدة. كانت تكلمها بهدوء وبصوت منخفض ونزلت إلى مستوي عيني الطفلة على الأرض واخذت تحدثها عن سبب رفضها إعطاءها شيئاً ما كانت تطلبه.
لم تكن الأم معنية بمن حولها.. كانت فقط مع طفلتها.. في حين يجرجر الآباء والأمهات العرب أطفالهم يصرخون فيهم بأصوات عالية دون أن يعطوا تعليمات محددة حول السلوك المطلوب: مثلاً كيف تنتظر في الصف لدخول الحمام أو كيف تغلق الصنبور. كل الأمهات كن يعانين مع أطفالهن كما هو متوقع في الرحلات الطويلة لكن فقط العربيات من كن يصرخن بصوت عال ويجرجرن أطفالهن مرددات طوال الوقت يالله بسرعة.. ما قلت لك.. أصلاً ما تفهم!.
يالله لهذا الطفل ويالله لهذه الأم التي تعرضت بالضبط لما تعرض طفلها له. لم يسمعها أحد يوماً ولم تقف أمها في انتظار أن تنهي حكايتها الطويلة وهي طفلة وتم نهرها وطلب منها الصمت وربما حتى مغادرة المكان الذي يوجد فيه الكبار لتستحي على وجهها وهاهي ذات الأم ومع أطفالها تعيد إنتاج ما تعرضت له من اضطراب انفعالي وتخبط في توجيه السلوك.
كيف سنخرج أمة ناضجة من آباء تم تشويههم وهم صغار؟.