رحل آخر السحرة في فضاء الرواية العالمية، وهنا لا أنقص من شأن أحد من الروائيين المبدعين الذين مازال عبق أنفاسهم كالياسمينة شذاها، لكن جابرييل جارسيا ماركيز نادر أن يشبهه أحد، فمن المدهش أن يكون أسلوبه المتسم بالواقعية هو سبيله لأفئدة القراء الذين غالبا ما يجذبهم الأسلوب الأدبي الرومانسي العاطفي الحالم.
كيف تراني في سطور صغيرة أنجو في الحديث عن أديب شغل الدنيا عقودا من الزمن؟!! وهل تراني أستطيع كما فعل الكاتب المجيد سمير عطاالله ببراعة أن يبدع في مقال على هيئة كبسولة مضغوطة.
الكتابة باختصار عن مسيرة ما يقارب مئة عام من الحياة والإبداع والحكي؟!
ماركيز كاتب صحافي نذر عمره للكتابة والحب ، لذلك اجتمع على حبه كل من بكى اليوم رحيله بحرقة، وكل من قرأ قبل أعوام رسالته التي وجهها لقرائه الذين إن اجتمعوا على عشقه فقد اختلفت لغاتهم وجغرافيتهم وأجناسهم.
تناثرت أوراق الشجر التي وضعتها لتجف بين طيات كتابه «عشت لأروي» حين التقطت الكتاب من الأرفف التي تمتلئ به، أول عبارة كانت له:
« الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه».
لعل أهم ما رواه غارسيا في هذا الكتاب عندما هجر الجامعة ذاهبا إلى الصحافة والأدب اللذين يؤمن أنهما موهبة لا حاجة لتعلمهما، لكن الموقف الصعب كان كيف سيواجه والده في قراره هذا وهو الذي كان يتوق لحظة يوافيه بشهادة جامعية تعوضه عن عدم إكماله دراسته في الزمن الذي مضى.
الشيء الوحيد الذي أراده ماركيز في الحياة هو أن يصير كاتبا وصار له هذا، حيث حول الأحداث البسيطة في الحياة اليومية أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة.
كانت الأشياء التي يرويها وهو طفل تبدو هائلة فتظنها أسرته كذبا دون أن يفكروا في أن معظمها كان صحيحا بطريقة أخرى، يؤكد هذا الدكتور باربوثا الذي لطالما دافع عن ماركيز بحجة حكيمة «أكاذيب الأطفال هي علامة موهبة كبيرة».
ولأنه يؤمن أن مخيّلة المرء أوسع مدى وأخصب بكثير من عين كاميراتية قد تحول المشهد الروائي إلى سينمائي بعد اختصاره، فلذلك رفض أن تتحول أعماله الروائية إلى أفلام سينمائية، وترك المخيلة أن تحلق بصاحبها أبعد من فضاء مؤطر بحدود ومثله كثيرون منهم الروائي باولو كويلو.
ماركيز الذي كتب رسالة حب إلى العالم عام 2006، يزفه اليوم محبيه بملايين الزهور قارئين رسالته الأخيرة» هناك دائماً غد، والحياة تمنحنا فرصة أخرى لكي نفعل الأشياء كما ينبغي، أبق الذين تحبهم على مقربة منك، اهمس إليهم كم أنت بحاجة لهم».
لله دره من كاتب طوّع الحرف لينبض بالحياة ويسعد البشرية.
وسأتمسك كما على الدوام بجملة جان كوكتو «سأتظاهر بالبكاء فقط، فالمبدعون لا يموتون إنما يتظاهرون بالموت فقط».