إن نمط نظام الحكم الملكي السعودي بوصفه نمطاً متحركاً ومتكيفاً على جذور مستقرة، وبثبات وحدة مبدأ قائم منذ أكثر من عشرة عقود، يدلل على أن المملكة العربية السعودية منذ نشأتها الأولى وحتى يومنا هذا وحدة سياسية واجتماعية ووطنية قائمة في الأساس على معالم الألفة الجامعة والتآلف الواثق لجميع أعضاء البيت السعودي الحاكم، وبجزالة المواقف الثابتة، وسمات أدبيات وعي قائم وبعقلانية الممارسة وعلى أرض الواقع المشاهد والمستقر والدائم وتبقى الملكية السعودية، ومجلس العائلة المالكة بكل أعضائه مضرب مثل لتجذر الأساس وصلابة القاعدة التي تقوم عليها منذ أكثر من قرن ونيف جذوة وتماسكاً وأثراً بالغاً ليس على حدود ونطاقات الدولة السعودية فحسب!! بل والعالمين العربي والإسلامي، بل العالم بأسره، لمثاليات قيم أخلاقية وإنسانية يتركز عليها.
وهو البيت «العامر» و»المُلك « المؤسس على الحكمة والحنكة، والفكر والعقلانية الذي برهن رغم كل التحديات والنوازل والزعازع سر الحياة في كينونته واستمراره ومضامينه، عملاً وطريقة ونهجاً لم ير العالم لها مثيلاً في تاريخه المعاصر والحديث.
وهناك طرق مختلفة لتخبر بها كل منظري ودارسي التاريخ، تاريخ الأمم والملوك بأن «المُلك» السعودي لم يكن يوماً من الأيام مطلباً لغاية أو لطلب سلطة أو لنوازع لذة عابرة أو استلاب حقوق وجبروت أو حبس لحريات أو إمتاع للهو وسرف وترف ولكن في شواهده الحاضرة وحراكه المشاهد وفي جوهره معدن ثمين متلازم لدعامتين أساسيتين نص عليهما نظام هيئة البيعة والنظام الأساسي للحكم في المملكة وهما: الالتزام بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والمحافظة على كيان الدولة، وعلى وحدة الأسرة المالكة وتعاونها وعدم تفرقها وعلى الوحدة الوطنية ومصالح الشعب.
«والمُلك» في فكر وعقلية أعضاء البيت السعودي ومفهومه ليس مطلباً ملحاً أو غاية أو هدفاً بحد ذاته، أو أمنية، بل مسؤولية ثقيلة وأمانة عظيمة، وهي تكليف لا تشريف يستوجب استحضار نية صالحة، وصدق توجه، وصلاح نفس، وإرادة أصيلة، وعزيمة نافذة، وعقل راجح ومراقبة دائمة لله تعالى، يقوم الملك المؤسس في إحدى خطبه:
(الملك لله وحده، وما نحن إلا خدم لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم، فنكون قد خنا الأمانة المودعة إلينا)، ويذكر أحد الرجال الذين عاصروه موقفاً ودعاءً عجيباً سمعه من الملك عبدالعزيز إذ يقول: (رأيت الملك عبدالعزيز في الهزيع الآخر من الليل عند صلاة الفجر يتمسك بأستار الكعبة، ويدعو الله قائلاً: إذا كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي، وإن كان فيه شر لي وللمسلمين، فانزعه مني ومن أولادي).
والملك في الأساس قائم على الحب والتفاهم والتناغم والانسجام القائم على الاحترام المتبادل، والثقة الموغلة بين أفراد أعضاء البيت السعودي الحاكم، لقدر الحب الحقيقي والقبول التام من قبل جميع أركانه وأفراده وأعضائه على «الملك» أو «ولاية العهد» أو «ولي ولي العهد» والتي تتم ببيعتهم الجامعة، بميزان العقل والحكمة والحنكة الحاضرة لكل ما فيه تحقيق المصلحة العامة للدولة والوطن والمواطن وعلى مدى حكم خلاله «ستة ملوك» حكموا المملكة العربية السعودية في عقد بدأه الملك المؤسس عبدالعزيز ببيعة تاريخية في الخامس من شهر شوال 1319هـ لتتوالى سيرة البيعة المنتظمة ودون انقطاع منذ ذلك التاريخ لأبنائه من بعده: سعود وفيصل وخالد وفهد - رحمهم الله حتى انعقدت لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في 26-6-1426هـ حفظه الله، وكذلك هي البيعة المنعقدة لولاية العهد التي بدأت في 16-1-1352هـ بتولي الأمير سعود بن عبدالعزيز كأول من يتقلد هذا المنصب، لتتوالى البيعة بولاية العهد لفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله، وسلطان، ونايف، ثم تنعقد للأمير سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله، وتمثل دورة البيعة حقيقة الانتقال السلس العفوي في سلوك الحكم السعودي، ولما يعبر عن رابطة الدم الأسرية، وعن وحدة الهدف والتآخي والتآلف، الذي يعكس شرط الهوية الناضجة بالوعي المؤسَّس، بعيداً عن الجمود والاختلاف والعزلة أو الاختراق للصف الواحد أو المنافرة والاختصام وهي العلامة التي تميز البيت السعودي الحاكم طوال تاريخه السياسي، إذ إن المُلك وولاية العهد ينتقل من يد إلى أخرى دون أي خلافات أو صوت يعلو، أو حتى لمجرد التفكير في تعطيل انتقال الحكم، بل إن الإجماع هو محور التقاء واع وبوقت قياسي عند إعلان وفاة الملك أو وفاة ولي العهد ويكون الإعلان في يوم الوفاة مباشرة في لحمة أسرية تدلل على عقلانية ووعي وحكمة جميع أعضاء البيت الحاكم وتفرده بهذا التمايز غير المسبوق وبمظهر حضاري ليس له مثيل أو ند في
كل الممالك والأمم.
ومن يقرأ تاريخ الأمم والملوك قراءة تحليلية فاحصة ومتأملة يجد تلك المعاني وهذه الحقائق تسمو أكثر ألقا وتمثلاً في عصر الدولة السعودية، وتاريخ سيرة أئمتها وملوكها وأمرائها لخلافة راشدة وصالحة بكل دلالاتها ومرتكزاتها ومضامينها عبر هدى راشد لقيام الدولة الإسلامية الحقة، وتواصل هذا الترسيخ بقوة خلال عصورها اللاحقة، وخلال اضطلاع ملوكها ونظامها ضمن ثلاثة مرتكزات أساسية وهي:
المرتكز الأول: ويعبر عن ممارسة الحكم من منظور الإسلام بطريقة فعلية وعملية منذ المعاهدة التاريخية التي تمت بين الإمامين المصلحين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، عام (1157هـ - 1744م) فقامت على هدى القرآن وقوة السلطان. وقد تابع الأبناء نهج أبيهم، فبذلوا جهدهم وجهادهم في سبيل إقامة الدين، وحفظ أهله، وكان سعيهم وجهادهم قائماً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فأتم الله بهم نعمته على المملكة، وتحقق فيها حفظ الدين، وإقامة شريعته، والالتزام بأحكامه، إلى جانب نعمة الأمن والرخاء.
المرتكز الثاني: ويعبر عن ممارسة الحكم القائم على المساواة وإقامة العدل والحكم بما أنزل الله، وكفالة الحقوق والحريات العامة وهذا ما أكده النظام الأساسي للحكم.
المرتكز الثالث: ويعبر عن فكر المُلك في المملكة القائم على العقلانية والحكمة والرؤية وعدم التباهي أو التفاخر الموسومة بألقاب العظمة والتجليل والتبجيل وهذا ظاهر للعيان ومنه عهد الملك المؤسس عبدالعزيز الذي ملأ الدنيا وأشغل الناس بما حفلت به سيرته من نظريات رائدة في فنون إدارة الحكم وممارسته ومنذ التأسيس الأول حيث تجد فرادة سلوك من نوع خاص عندما تسمع فرداً من عامة الشعب يناديه بأعلى صوته ولا أعلى سلطة في الدولة بقوله: «يا عبدالعزيز» «يا ابن سعود» «يا أبو تركي» واستمر هذا النهج حتى يومنا الحاضر «يا أبو متعب» «يا عبد الله» «يا سلمان» في نبض الحب الجارف والالتفاف الحميم بين القيادة والشعب، وإذا كان الملك عبدالله بن عبدالعزيز مؤسس لرؤى تنير لنا المستقبل وتوضح أمامنا معالم الطريق وذلك من خلال قراءات بفكر قائد ملهم يعتمل هذا الوطن والمواطن في قلبه الحافل بكل ما فيه خير ونماء واستقرار وأمن هذه المملكة، وهو عبدالله بن عبدالعزيز الذي يفاجئنا دائماً بومضات النور التي قهرت الظلام وانبعثت منه وعنه كل الحركات الإصلاحية البناءة وما استحداثه منصب ولي ولي العهد ولأول مرة في تاريخ المملكة العربية السعودية ونظام الحكم السعودي إلا لكي يضعنا على أرض صلبة وقاعدة متينة لوضع مستقر وآمن، مما جعله رجل المرحلة لفكر ملك وسم بسعة المعرفة ودقة النظر وبعده وهو الذي يقودنا إلى مشارف ميلاد جديد يبشر بالتقدم والاستقرار والبناء لكل ما فيه رخاء ورفاهية وإسعاد الوطن والمواطن.