يقول حكيم غاب اسمه وشاعت حكمته «إن الثقة كالممحاة.. تصغر قليلا مع كل خطأ حتى تختفي!
قبل ثماني سنوات من الآن قتل الجاسوس الروسي السابق إلكسندر ليتفيننكو في لندن بعد تسممه بعنصر البلونيوم 210 المشع، في تلك الفترة العصيبة أعلن وزير الداخلية البريطاني آنذاك جون ريد عن العثور على آثار مشعة في 12 موقعا تقريبا في مدينة لندن تواجد فيها الجاسوس القتيل، كما تطور الأمر إلى إخراج طائرتين تابعتين للخطوط الجوية البريطانية من الخدمة نتيجة تحليلات بوجود آثار للمادة المشعة على متنها، وتم التواصل مع 33 ألف مسافر ممن أقلتهم في الفترة الأخيرة للتحقق من سلامتهم من الإشعاع.
من يستذكر تلك الفترة العصيبة يدرك أن نصف مدينة لندن حينها قد توقف عن الحياة، وأن كثيرا من المصالح ومظاهر الحياة والعمل قد تعطلت بسبب الخوف والشك وعدم اليقين! .. كنت حينها أتابع من خلال الإعلام خوف البريطانيين المحموم ومحاولتهم السيطرة على هذه الحالة الشعبية، في تلك الأثناء عقدت منظمة أو هيئة بريطانية مستقلة تعنى بالتحقق من السلامة من الإشعاعات مؤتمراً صحفيا تفصيلياً حددت فيه حجم الخطر ومنحت العلامات الخضراء للمناطق الآمنة من الإشعاع ثم بدأت تتأكد وتتحقق من حجم المشكلة في المناطق الموبوءة والمشكوك فيها وتطمئن الناس مرحليا حتى زال الخطر نهائيا وعادت ساعة لندن إلى الحياة من جديد، قبل تلك الحادثة كانت الحكومة البريطانية تتلقى اللوم من عدد من خصومها بسبب الإنفاق المالي على هذه الهيئة أو المنظمة من أموال دافعي الضرائب لسنوات دون أي فائدة ملموسة لها!
المنتقدون واللائمون للحكومة البريطانية على إنشاء تلك الهيئة أو المنظمة والصرف المالي عليها، أدركوا حينها قيمة العائد على الاستثمار في بناء الثقة وتراكمها، فما قدمته من طمأنينة أعادت الحياة إلى مدينة لندن وقت الشدة خلال أيام بعد أن تعطل كل شيء تقريبا يتجاوز عائده الاقتصادي بأضعاف حجم الأموال المصروفة عليها وقت الرخاء!
تذكرت تلك الحادثة اليوم ونحن نشهد ظاهرة كورونا في بلادنا والخوف الشعبي من آثارها، والجدل المستمر حول الشفافية والمصداقية في رصد الحالات المصابة يوميا, حتى بات دور وزارة الصحة ينصب في نفي ذلك الكم الهائل من الإشاعات من الإصابات التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي ولاتملك أي سند توثيقي في مجملها أكثر من مجرد تغريدة لمغرد تويتري قد لا يكون بلغ الحلم بعد!
أتساءل عن أهمية الحاجة إلى إنشاء هيئة أو جهة في بلادي تملك مصداقية طمأنة المواطن في وقت الأزمات والكوارث، تملك جهازا إعلاميا تواصليا متخصصا يزرع الثقة وقت الرخاء ليحصدها وقت الشدة، فما نشهده من واقع يجد فيه مجرد مغرد صغير في وسائل التواصل الاجتماعي مصداقية أكبر أو تضاهي على أقل الأحوال مصداقية وزارات أو أجهزة حكومية لدى الرأي العام تملك زمام الحقيقة والمعلومة الدقيقة الممحصة هو رأس الكارثة قبل أي كارثة!!