في إطارها الإنساني العام، تعد علاقة المثقف مع السياسي من العلاقات الأكثر عرضة للانكسار إن حاول أحدهما أن يمشي في خطى الآخر حذو الخطوة بالخطوة، و قد يكون موقف المثقف أكثر حرجاً عندما يحرص أن يواكب مواقف السياسي بالتأييد والمؤازرة، والمتعارف عليه تاريخياً أن المثقف قد يكون مصدراً لإلهام السياسي في اتخاذ بعض المواقف وفي تقديم الرؤى والأفكار الجديدة، أما العكس فغير صحيح، وذلك لاستحالة أن يواكب المثقف سرعة تقلبات الموقف عند السياسي، والذي عادة ما يتخذ مواقف أشبه بالمناورات السياسية في بعض الأحيان من أجل أن يصل إلى أهدافه.
كذلك يصعب أن تكون العلاقة بين المثقف والسلطة على قدر عال من الحميمية، وذلك لما يحمله مصطلح السلطة من سلبيات، ويفضل أن يكون المثقف في منأى عن السلطة إذا كان مفهومها يقتصر فقط على الاستبداد والقهر، بينما يفترض أن تكون علاقة المثقف بالوطن إيجابية وعضوية أي مرتبطه بالولاء لمكوناته الأساسية مثل الأمن والاستقرار والمستقبل، و في نفس الوقت مهتمة بقضاياه، وتحرص بموضوعية على الكشف عن العيوب والعثرات من أجل تجاوزها.
عندما يكون المثقف أداة في قبضة السلطة تحدث الكوارث السياسية، وقد شهدت العصور العربية المتأخرة مواقف كان المثقف العلماني فيها بمثابة الأداة التي يستخدمها السياسي كيفما شاء في تبرير قراراته وبطشه، وكانت حقبة القومية العربية غنية بتلك المواقف، وشهدت مراحل شديدة الإقصاء، وكان للناصرية ودول البعث العربي اليد الطولى في إقصاء المخالفين باستخدام الثقافة كوسيط لتنفيذ رغباتهم السياسية وإقصاءهم للآخر المخالف، كذلك كان المثقف الديني في مراحل آخرى وسيلة لضرب مواقع العلمانيين والشيوعيين والقوميين في مواقع آخرى.
توصلت الحضارة الإنسانية المعاصرة إلى مراحل متقدمة في احترام الأوساط الثقافية و التي تعد منجماً لا ينضب للأفكار الجديدة، بعد أن أكتشف أن توفير مناخ الحرية لتلك العقول يجعل منها أكثر إبداعاً، وقد شهدت مراحل تطور الغرب أهمية الدور الثقافي القيادي في إيجاد الحلول لكثير من الأزمات الاقتصادية والسياسية، وأيضاً في إثراء العقل السياسي برؤى جديدة في النظريات الاجتماعية والاقتصادية، وقد كان لبعض العقول المثقفة في العالم أدوار غير عادية في انتقال بلادها من مرحلة إلى أخرى، ويأتي على قمة تلك القائمة المهاتما غاندي، والزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا، بينما كان الزعيم والمثقف الشمولي المتفرد مثل صدام حسين ومعمر القذافي سبباً رئيسياً في الكوارث التي لحقت ببلادهما.
لا تزال محنة المثقف العربي تمر في هاجسه الأمني، وفي اعتباره منشقاً خارجاً عن الوطن عندما يقدم أفكاره الجديدة أو يقدم قراءات مختلفة للأوضاع في الوطن، بل قد يصل الحال إلى التشكيك في مواقفه الوطنية، ومطاردته عبر السنين، إن لم ينسجم مع العملية السياسية الشمولية، وأن لم يلعب أدواراً في اللعبة السياسية الداخلية، و قد يواجه الإقصاء إن لم يعلن تأييده المطلق للسياسي، ولا يعني ذلك أن لا يفعل، لكن يجب أن يحدث ذلك في جو من الحرية، وأن لا يتعرض إلى توجيه لقول ذلك الرأي أو مهاجمة ذلك الشخص.
الثقافة و الأيدولوجيا خطان لا يلتقيان لأنه لا يمكن أن يكون المثقف مؤدلجاً بأفكار يعتقد أنها الحق المطلق، وإذا رأى ذلك خرج من دائرة الثقافة إلى دوائر العمل السري والأدلجة في مواقف الحق والباطل، وبذلك تسقط وطنيته وانتماؤه لأن الأوطان لا تحتمل التقسيم على أسس الحق والباطل والخير والشر، ولكن تقوم على الاعتراف بأوجه الاختلاف والاحترام المتبادل، وتزدهر على الاتفاق أن وحدتها وأمنها فوق أي اعتبار آخر مهما كان نبيلاً.
يشترك المثقف مع السياسي في كونهما الأكثر عرضة للاغتيال، فالتاريخ الإنساني يحكي قصصا لا حصر لها لمثقفين لقوا حتفهم نتيجة أفكارهم الجديدة، كذلك تعرض السياسيون والقادة للاغتيال بسبب مواقفهم السياسية، لكن ذلك لا يعني أنهما يجب أن يلتقيا أو أن يمشي أحدهما حذو الآخر، والأصح أن يبقيا مستقلين عن بعضهما البعض، وأن يمارس السياسي أدواره ومناوراته بعيداً عن مؤازرة قلم المثقف، لأن السياسي قد يمسي على رأي، و يصبح على موقف آخر، مما يجعل من مهمة المثقف في غاية الإحراج إن حاول أن يمشي خلف السياسي، وربما يفقد بسبب تلك التبعية عذريته الثقافية وموضوعيته.