قال تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) سورة العنكبوت. وقال سبحانه وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . (46) سورة الحج.
ولأن الأرض بطولها وعرضها وامتدادها أرض الله فلم يحدد - سبحانه وتعالى - أي حدود أو أرض نسير فيها ونسيح، وترك لنا حرية السير والسياحة والسفر.. لكل غرضه وهدفه ومبتغاه وهو مسئول أمام الله - لا أمام البشر- عن سيره وسياحته وسفره. وبهذه الآيات نرد على من أفتى بأن لا جدوى من السفر، وعلى من قيّد السفر والسياحة بدول ومدن معينة ومنعها عن دول ومدن أخرى حتى حرم السفر إليها.. فكل الدول والبلدان أرض لله مشرعة حدودها البرية، والبحرية، والجوية، للسائح، ولطالب العلم، ولرجل الأعمال، وللمهاجر بلا استثناء، طالما أن كل مسافر يرجو فائدة من سفره والفوائد جمة وإن أجملها الإمام (الشافعي) في خمس فوائد:
تغرّب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
* * *
نرى الطالبة في الفصل لا تحتمل الجلوس على مقعدها لساعة كاملة فنستغرب ونضجر من كثرة حركتها رغم كون تصرفها طبيعياً.. فالحركة منتجة والبقاء على وضع واحد عقيم، والطالبة لن تساهم في تنشيط وحيوية الحصة ما لم تتحرك.. ترفع يدها.. تقف لتجيب.. تتجه إلى السبورة لتكتب.نشاط الطالبة وحيويتها يقابله نشاط وحيوية المعلمة بدليل أن عطاء المعلمة في فصل طالباته نشيطات يختلف عن عطائها في فصل آخر طالباته في منتهى الخمول والكسل لنصل إلى أن كل حركة منتجة، والعكس صحيح.. قد يختلف مستوى وكم وكيفية الإنتاج بيد أن الخلاصة إنتاج.
الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حَضَّ على السفر وضرب لذلك أمثلةً بالعنبر، والكحل، والشمس، وغيرها لو استقر على وضعه لما أنتج واستفدنا منه:
ارحل بنفسك من أرض تُضام بها
ولا تكن من فراق الأهل في حرق
فالعنبر الخام روث في مواطنه
وفي التغريب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره
في أرضه وهو مرمي على الطرق
لمَّا تَغَرَّبَ حاز الفضل أجمعه
فصار يحمل بين الجفن والحدق
* * *
تختلف دواعي دعوة الشافعي للسفر، كالسفر من أرض الذل.. ولكن مطلبنا الرئيس فوائد السفر بصرف النظر عن دواعيه ودوافعه.. لدينا سلوك، ثقافات، طبائع، أمزجة، معتقدات يساهم السفر في ترسيخها أو صقلها والارتفاع بها أو محوها إن كانت لا تليق.
في (ماليزيا) التي سافرت إليها هذا العام - وسأفردُ لها زاويتي الأسبوع القادم بإذن الله - وقفتُ على شعب يختلفُ عنَّا بكثير حتى إنك لتظن الثلج مصدره هم..!! شعب يتصف بالبرود المعقول وبالحلم بالأخص أمام إشارات المرور.. لا يأبه الفرد منهم وهو قادم باتجاه إشارة المرور إن أوشكت على أن تصبح (حمراء).. أو شارفت على الإضاءة الخضراء.. قارنت بينهم وبين مَنْ يسابق الريح بعد إفاقة الإشارة الحمراء.. ومَنْ يصل لمنتصف التقاطع مستعجلاً الإشارة الخضراء!!
شعب يمتلك ذوق الدنيا.. يغلب عليه الطيبة.. شعب ودود يستقبلك بترحيب مبتسم ويودع بترحيب مماثل وابتسامة أرقى.
السفر هذا سيساهم في مراجعة اتقاد الأعصاب، سرعة الغضب، الشعور بالملل عند محطات الانتظار.. وهذه حسنة من حسنات السفر والسياحة لبلد آخر.. أو للخارج مثلاً.
لا شك أن الحنين للوطن عامر به القلب في دولة السفر.. الحنين لشوارعه وطرقاته.. الحنين لغرفة النوم وللفرش الوثير وإن اتخذنا للإقامة أفضل فندق.
الإحساس بالغربة موجود ولكنه إحساس معقول يشعر به كلُّ مَنْ غادر وطنه:
إن الغريب له مخافة سارق
وخضوع مديون وذلة موثق
فإذا تذكر أهله وبلاده
ففؤاده كجناح طير خافق
الاحتياج للسفر وللسياحة الداخلية والخارجية موجود وضروري وإن وشمنا بوشم ألم الغربة، ولا أساس لرفض الرافضين لفكرة السفر والسياحة الخارجية لأننا نحتاجها كحاجتنا للسياحة الداخلية فالأرض جميعها أرض الله:
قال الإمام الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدب
من راحة فدع الأوطان واغترب
سافر تجد عوضاً عمّن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملَّها الناس من عجم ومن عرب
والتبر كالترب ملقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطب
فإنْ تَغرَّبَ هذا عَزَّ مطلبه
وإنْ تَغَرَّبَ ذلك عَزَّ كالذهب.