حتى المجتمعات المحكومة بأحادية الإجماع في الرأي (وهي خصوصية مرت بها كل الحضارات) نعثر فيها على فترات قصيرة من الإشعاع الفكري العميق الذي حاول أن يضيف أبعاداًً تتخطى الحيز المحتجز هذا السائد بداخله.
كل واحدة من تلك الومضات القصيرة الأجل كانت مرتبطة غالباً بشخص عبقري التفكير، استطاع مؤقتاًً أن يوطد علاقة ود خاصة مع حاكم مستنير يحتمي به من بطش المجموعة المنقادة لمؤسسة الرأي السائد، ثم ينتهي الأمر بقدوم حاكم جديد.
لهذا السبب لم يستطع أي مفكر عبقري في الحضارة الإسلامية أن يؤسس لمدرسة تجديدية تستطيع الاستمرار بعد نفيه أو قتله أو موته الطبيعي.
هذه المأساة، مأساة العقل النابغ في مواجهة التمصلح من الركود، تكررت في كل الحضارات ولم تكن حكراًً على الحضارة الإسلامية. لهذا السبب أيضاًً لم يكن هناك اجتهاد منتج ينقل الفكر من مستوى السائد العام إلى مستويات أكثر عمقاًً وعدالة، إلى أن حدثت الانطلاقة لحرية التفكير العقلانية في القرن السابع عشر.
القارة المحظوظة ببداية هذه النقلة كانت أوروبا، وذلك لأسباب يسهل فهمها.
كانت الشعوب الأوروبية على امتداد ألف عام تعيش في ظلام دامس من الجهل والظلم والاستعباد، بتفويض من المؤسسة الكنسية التي تصدر أوامرها باسم الحق الإلهي المقدس، فيطيع الحكام والإقطاع وترضخ الجماهير.
إذاًً وبالاستنتاج المنطقي البسيط، حدثت الثورة الفكرية الشاملة لأول مرة في أوروبا القرن السابع عشر، لأن شعوب تلك القارة المظلمة كانت تعاني أسوأ أنماط الحكم والعيش على مستوى العالم.
لم تكن النقلة الهائلة مجرد صدفة، بل متوقعة.
لا أعتقد أن الفكر اليوناني أو الروماني القديم، ولا الفكر الغربي الحديث أنتجت عقولاًً أكثر عبقرية من ابن رشد وابن طفيل وابن باجه وابن سيناء والرازي، على سبيل الأمثلة فقط، ولكن الظرف التاريخي هو الذي سمح بالانتشار والتأثير.
التضحيات التي قدمها مفكرو القارة الأوروبية في سبيل الانعتاق من ركود السائد كانت أكبر، لأنها ببساطة كانت تعاني أوضاعاًً أشد وطأة من مثيلاتها في القارات الأخرى. الظرف الذي حسم المعركة في النهاية كان التصدع الفكري الكنسي الظلامي من داخله، واستنارة وشجاعة بعض الحكام الطلائعيين المستنيرين في القارة الأوروبية.
أحد عمالقة الفكر الأوروبي المبكر كان الألماني «إيمانويل كانت».
في واحد من أهم أعماله في عام 1788 م، نقد الفكر العملي (وهو غير نقد الفكر المحض)، يحاول «كانت» الغوص في خصوصيات الرغبة والنية والأخلاق. يقول كمثال مبسط على جرعة فلسفية بطريقة سريعة: «يمكن الحكم على الأخلاق بطريقتين، أن يصدر الحكم على تصرف أو إنجاز ما بأنه حسن، لأن نتائجه أتت حسنة، أو أنه سوف يكون تصرفاًً حسناًً لأنه كما يبدو ينبع من مبررات حسنة.
لكن المشكلات تكبر وتتعقد فيما بعد، لأن التأكد من النتائج بعد حدوث أي تصرف أو عمل أسهل كثيراًً من التأكد من مبرراته أو دوافعه.
الأكثر تعقيداًً من ذلك هو أن النوايا الحسنة قد ينتج عنها كوارث غير متوقعة، وبالعكس».
بناءً على ذلك يستنتج كانت «لا يوجد تصرف في هذا العالم أو إنجاز يمكن اعتباره بطريقة مطلقة جيداًً أو حسناًً بالمطلق، ما عدا النوايا الحسنة».
ثم يتساءل: لكن كيف نتعرف على حسن النوايا؟.
ويجيب بنفسه: المحدد لحسن النوايا هو الالتزام الكامل بأداء الواجب، وهذا يعني بالضرورة أن تتبع ضميرك وتعمل بما يختاره لك. انتهت الجرعة وأرجو البحث عن المزيد.