يحتج بعض الحركيين حينما ينتقون من الألفاظ أسوأها، ويوجهونها إلى من يختلف معهم، بحادثة جاءت في حديث رواه (البخاري) في صحيحه عن مجريات صلح الحديبية، جاء فيه بالنص: (فأتاه - أي عروة بن مسعود - فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحواً من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: «امصص ببظر اللات» أنحن نفر عنه وندعه؟...) إلى نهاية الحديث.
(البظر) كما جاء في (لسان العرب) لابن منظور: (ما بين الإِسْكَتَيْنِ - جانبا الفرج وهما قُدَّتاه - من المرأَة) و(اللات) صنم من أصنام أهل الطائف، وقد عَيّر أبوبكر - رضي الله عنه - عروة بن مسعود بهذا الصنم لأنه كان من ثقيف، وكان يدافع عن قريش. قال الحافظ ابن حجر: ( وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار).
حجتهم تقول إن تلفظ أبي بكر - رضي الله عنه - بهذه العبارة، والرسول - صلى الله عليه وسلم- يسمع ولم يعترض عليه، ولم يُوجهه، تدل دلالة كافية على جواز شتم المخالف أياً كان، والغلظة معه بأسوأ الألفاظ؛ حتى وإن كان مُسلماً. طالما أنه يختلف مع أطروحاتهم؛ وهناك منهم من يدعي أنهم حين (يشتمون) المخالف، ويُشهرون به، فإنهم يمارسون بذلك عبادة يتقربون بها إلى الله - (تصوروا أصبحت الشتيمة قربة!) - ؛ بل إن بعضهم يُجاهر بأن (نظام مكافحة جرائم المعلوماتية) - مثلاً - الذي يَعتبر الإساءة والتشهير جريمة إلكترونية يُعاقب مقترفها، (غير شرعي)، لأنه يُضيّق على المحتسبين في احتسابهم؛ لذلك يتعمّدون مخالفته غير آبهين بالعواقب، ودليلهم حادثة أبي بكر التي أشرت إليها آنفاً، وكذلك بعض الاجتهادات التي ينسبونها إلى بعض الفقهاء؛ غير أن استدلالاتهم هنا في منتهى الضعف والوهن، فالعبارة قالها - رضي الله عنه - وكان منفعلاً غاضباً عندما استفزه عروة بقوله، وكان المخاطب بها غير مسلم حينها، والمناسبة التي قيلت فيها قضية حرب ونزاع، وخلال مرحلة مفصلية في تاريخ الإسلام (عام الحديبية)؛ كل هذه العوامل يجعل هذه المقولة تنتقل من العموم إلى الخصوص، ومن الإطلاق إلى التقييد؛ كما أن من أدعى أن التشهير والزجر مهمة احتسابية مُكلف بها شرعاً، ويتكئ في مقولته على أقوال بعض الفقهاء، فهو (يفتئت) على سلطة القضاء فضلاً عن سلطة الدولة، التي لها (حصرا) دون غيرها حق التشهير والزجر وعقاب المخالف.
والله جل وعلا يقول: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل؛ ومدح نبيه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وجعله لنا أسوة وقدوة؛ كما أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الفجور في القول حتى وإن وصل الخلاف إلى درجة الخصومة بقوله: (ليس المؤمن بطعان ولا بلعان ولا الفاحش البذيء). وغضب على صاحبه أبي ذر - رضي الله عنه - ونهره عندما تخاصم مع بلال - رضي الله عنه - فقال له: (يا ابن السوداء)؛ كما أنه صنّف الفجور في الخصومة بين المسلمين على أنه ضربٌ من ضروب النفاق؛ ففي الحديث: (أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر). ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم في حديث آخر: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)؛ وغنيٌ عن القول إن من يتلمسون لأنفسم سبباً لشتم وسب كل من خالفهم هم أبعد الناس عن مكارم الأخلاق.
وختاماً أقول لكل هؤلاء: تأملوا معي هذه الآية الكريمة التي تُجسد جُبلّة من يختلف معك، وتُلخّص بواعث الاختلاف بين بني البشر، يقول تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (118) سورة هود؛ فلماذا إذاً تشتمون وتفجرون في الخصومة مع من يخالفكم إذا كان الاختلاف بهذه الصورة التي تضعها أمامنا هذه الآية الكريمة؟
إلى اللقاء.