ما لي أرى الحسناءَ بانَ شعُورها؟
يا صاحِ: دعها فالمُصابُ كبير
حقًا إن الفقد عظيم والمصاب كبير، لم يفقد آل المبارك رجلاً بل فقدت الأحساء والجزيرة رمزاً من الكرم والأخلاق والجزالة، فقدت والداً وأباً جمع بين العطف والحلم والأدب، كان علماً يقصده القاصي والداني تراه يحث الصغير وينصح الكبير، وصيًّا بالنساء داعياً لمكارم الأخلاق، كل من عرفه أو زاره كان يشعر بقربه منه حتى يخيل له أنه أحد أبنائه وخاصته، كان يأخذ بيد الجميع لما يظنه ويعتقده الصواب كل بحسب سنه وشخصه، صاحب ابتسامة تجبرك على ردها بأبلغ منها ولن تجد، لم أعرف رجلاً بسنه عُمِّر وفقد من حوله بتسليم ورضا بل كان يُظهر حبه للحياة ويشجع الناس على ذلك، كان يؤمن بإظهار الحب للناس وينشره بينهم، لم يعرف من حوله أنه حمل حقداً أو كرهاً لأحد ما، بل كان يأمرُ بالصفح ويتجاوز عن كل منغصات هذه الدنيا.
كان مقصِداً لكل من مرّ بأرض هو فيها، لم يكن عميداً لأسرة أو عائلة إنما كان رمزًا يستأنِسُ الرجال والنساء صغاراً وكباراً بمجلسه، ولست هنا أعزي نفسي أو أخوالي أو أي قريب إنما أستعير قول العم أحمد بن راشد:
آلُ المباركِ والخطوبُ تواترتْ
والدَّهرُ يعدِلُ تارةً ويجورُ
فتجلَّدوا للحادثاتِ فأنتمُ
قومٌ بهديكمُ الهُداةُ تسيرُ
بل أُعزي المحافل التي كان هو بهجتها، فللخال والعم والجد الشيخ عبدالله أثرٌ كبير على كل من حوله كضياء ومشكاة تنير الطريق لكل تائه يلتمس به طريق الأمل، لم يكن ذاك الأديب أو الفقيه ولكن عاصر الفقيه والأديب وعاصر الغني والفقير والكبير والصغير فتكونت بذلك شخصية جمعت من كل بستان ثمرة وخلقت شجرة يستظل بها الجميع باختلاف اهتماماتهم ومشاربهم، كان يحث الصغار والشباب على طلب العلم وكان يكثر الإلحاح على حفظ الشعر والأدب حتى لا يخلو مجلس من مجالسه إلا وتلقى على مسامعه قصيدة أو رواية، وحين تقبل عليه الفتيات والنساء كان يلح عليهن بإحسان التربية والقيام بما أمرهن الله ورسوله وينهى عن كل ما يجلب السوء لهن ولبيوتهن، كان يسمع منهن ويحرص أيضاً على زيارة القواعد منهن بل لا يخلو يوم من أيامه إلا ويصل قريبة أو نسيبة ولا يكترث إن كان هو صاحب الحق أم غيره بل كان يحن عليهن جميعا حنان الأب على بناته.
يا سيداً لم تدع للناس مكرمةً
إلا وعنك رواها اليوم راويها
يا واحداً لم تُبَعْ في الناس مأثرةٌ
إلا وكنت بقد الروح تشريها
أما حين يجالس الكبار فهو لم يفتأ يسأل عن أحوالهم وأين آلت الحياة بهم، فيُذكِّرهم بأبنائهم ونسائهم وبيوتهم، ويشد عليهم بالتمسك بنهج الحبيب المصطفى عليه السلام وأفعال صحابته رضوان الله عليهم، وكان كثير الحرص على التمسك بالعادات التي نشأ وترعرع عليها من الكرم ومعرفة الرجال والسمات التي تحلى هو بها، كان عوناً للمحتاج ولكل من سأله أو علم هو حاجته.
والله لولا أن هذا موردٌ
لا بُدَّ لي في حوضه من مرتعِ
لجزعتُ حتى لا أُفيقَ من الأسى
أو تُرجع الأيامُ من أهوى معي
في يوم مغادرتي البلاد ذهبت للسلام عليه وهو في حالة ضعف لم تسمح لأحد بزيارته وبمجرد دخولي حجرته استقبلني بابتسامة ممزوجة بألم وكمد حتى شعرت أن الأرض لم تعد قادرة على حملي من تأثري بتلك الابتسامة، فأشار إلى جنبه لأجلس وبدأ يتحدث بصوت وكلمات متقطعة يثني على ما اخترته من إكمال دراستي فأخذت أحاول أن أثنيه عن الحديث حتى لا يجهد ولكنه كان مستمراً مسترسلاً في حديثه وسرد نصائح تعينني على غربتي، ولكن لم أتحمل ذلك فقبلت رأسه واستأذنت فأمسك بيدي وأدخل يده الأخرى في جيبه وأخرج صرّةً من القماش الفاخر بداخلها طِيبْ، ووضعها في يدي وأغلق يدي وقال: هذه لزوجتك في المستقبل، لم أكن أحد أحفاده ولا أبنائه وإنما كنت ممن يظن قربي منه.
عِظمُ الفقدِ وحجمه لم يترك للحروف والألفاظ ميزان وإنما الدعاء له هو الذي ننشده في ذكر كل حسنة من محاسنه وسماته رحمه الله رحمة واسعة.
لِيَبْكِ عَلَيْكَ الْقَلْبُ، لاَ الْعَينُ؛ إِنَّنِي
أرى القلبَ أوفى بالعهودِ وَ أكرما
فواللهِ لاَ أنساكَ ما ذرَّ شارقٌ
وَمَا حَنَّ طَيْرٌ بِالأَرَاكِ مُهَيْنِمَا
عَلَيْكَ سَلاَمٌ لاَ لِقَاءَةَ بَعْدَهُ
إِلَى الْحَشْرِ إِذْ يَلْقى الأَخِيرُ الْمُقَدَّمَا