كان متوقعاً تعثر الانتخابات الرئاسية اللبنانية، التي يجريها المجلس النيابي اللبناني -وفقاً للدستور- لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.. منذ الجلسة الأولى التي عقدها (المجلس) في الثالث والعشرين من أبريل الماضي، وقبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس العماد (ميشيل سليمان) في الخامس والعشرين
من الشهر الحالي - مايو-.. حتى لا يجد اللبنانيون أنفسهم صباح يوم السادس والعشرين من (مايو) وهم (بدون) رئيس.. رغم حضور الجلسة من قبل مائة وأربعة وعشرين نائباً من أصل مائة وثمانية وعشرين نائباً الذين يمثلون إجمالي عدد النواب، وهو ما كان يمكن أن يؤمن - ببساطة - أغلبية الـ(86) صوتاً المطلوبة للفوز بدورة الانتخابات الأولى لـ(الرئاسة اللبنانية).. لأي من مرشحيْها: العماد ميشيل عون.. زعيم حزب (الإصلاح والتغيير) المتحالف مع (حزب الله)، والذي أصبح معروفاً - فيما بعد - بتكتل (الثامن من آذار)، أو (سمير جعجع).. زعيم حزب (القوات اللبنانية) المتحالف مع (تيار المستقبل).. والمعروف بـ(تكتل الرابع عشر من آذار)، إلا أن ذلك لم يحدث.. رغم حضور كافة أعضاء المجلس النيابي.. وتغيب أربعة منهم - فقط - لا يؤثر غيابهم بحال من الأحوال.. على إمكانية حصول أحد المرشحيْن على الـ(86) صوتاً المطلوبة في دورة الاقتراع الأولى للوصول إلى دورة الاقتراع (الثانية) أو دورة الإعادة، والتي يتم حسمها بالأغلبية البسيطة.. أي بـ(51%) من إجمالي عدد النواب.. ليتم الإعلان - بعدها - عن اسم الرئيس اللبناني الجديد.
فإذا كان هناك من أدهشهم عدم حصول أي من المرشحيْن.. على الـ(86 صوتاً) المطلوبة، واعتبروا ذلك فشلاً برلمانياً مقصوداً أو غير مقصود.. فإنني كنت ممن توقعوا حدوث ما حدث منذ أن تم الإعلان عن (اسمي) المرشحيْن للرئاسة ولدورة الاقتراع الأولى.. وهي (الأهم)، بسبب المرشحيْن (نفسهما).. وليس بسبب المناورات والمقايضات والمكايدات الحزبية أو الامتناع والغيابات المقصودة وغير المقصودة التي كانت سمة الجلستين اللتين تلتا جلسة مجلس النواب الأولى والحاسمة في أبريل الماضي، إذ إن للمرشحيْن (عون) و(جعجع) تاريخ طويل مثقل.. لم ينسه لهما عامة اللبنانيين وخاصتهم بمن فيهم الـ(مائة والثمانية والعشرين نائباً)، الذين جاءت بهم انتخابات عام 2005م النيابية، والذين سيقومون بالتصويت لهما أو ضدهما.. في هذه الانتخابات الرئاسية الجديدة..؟!
* * *
فـ(العماد عون).. والذي كان قائداً للجيش قبل وخلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990م)، هو الذي استخدم الجيش اللبناني.. في غير أغراضه الدفاعية عن الوطن، وقاتل به الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية.. معاً، بل وقصف به قصر الرئاسة اللبنانية في (بعبدا).. الذي يسعى إليه اليوم لتسلم سدته، ثم لجأ إلى السفارة الفرنسية في بيروت، لتؤمن له الحماية.. فمغادرته بيروت سراً إلى (باريس)، ليعيش هناك في ضيافة فرنسية لما يزيد عن عشر سنوات.. ثم عاد بعدها - وقد ظن أن الناس نسوا ماضيه - ليقيم حزبه (الإصلاح والتغيير)، الذي سرعان ما تحالف مع أقوى القوى الإسلامية الشيعية في لبنان (حزب الله).. تحالفاً مصلحياً تحت شعار (الدين لله.. والوطن للمصالح)، وليس كما هو معروف في الدول ذات الأديان المتعددة (الدين لله والوطن للجميع)!! ليكون ثمرة هذا التحالف.. ولادة تكتل (الثامن من آذار)..؟!
أما (جعجع).. أو من يسمى بـ(الحكيم) تشبهاً بحكيم الثورة الفلسطينية الدكتور (جورج حبش)، والمرشح المقابل في سباق الرئاسة اللبنانية هذا.. فتاريخه أطول..وأكثر امتلاءً بـ(الظلال) والبقع السوداء والحمراء، وقد بدأ حياته عضواً في الذراع الطلابي لـ(حزب الكتائب) الماروني المتشدد مع دخوله الجامعة الأمريكية.. لدراسة (الطب)، إلا أنه ترك الدراسة مع بداية الحرب اللبنانية.. ليشارك في قتال التنظيمات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.. معاً، ثم عاد للدراسة مع دخول قوات الردع العربية (السورية.. في معظمها) إلى لبنان، ثم تركها قبل تخرجه بشهرين، ليُلحقه بشير الجميل - ابن زعيم حزب الكتائب الأشهر والأحد بيار الجميل - بـ(القوات اللبنانية)).. كي يبعث به قائداً للمجموعة التي أرسلها لاغتيال النائب (طوني فرنجية) - زعيم ميليشيات المردة - ضمن خطته لما كان يسميه آنذاك بـ(توحيد) البندقية المسيحية!! إلا أنه انتقد القيادات المسيحية المارونية التقليدية - فيما بعد - فطُرد من حزب الكتائب، ليقوم بـ(انتفاضة) ضد رئيس (القوات اللبنانية) فؤاد أبو ناضر مع كريم بقرادوني وإيلي حبيقة.. حيث أصبح (حبيقة) هو القائد العام لميليشيا (القوات اللبنانية)، لكنه سرعان ما أطاح برفيقه وشريكه (إيلي حبيقة) - بعد توقيعه على الاتفاق الثلاثي الذي يجمعه مع شيعة «بري» ودروز «جنبلاط» برعاية سورية - ليتسلم القيادة مكانه.. إلى أن جاء (اتفاق الطائف) الذي تحولت معه الميليشيات العسكرية المتصارعة.. إلى (أحزاب) سياسية متحاورة، إلى جانب اتهامه بتدمير (كنيسة سيدة النجاة) التي بُرِّئ منها، لتتم محاكمته - بعد ذلك - بتهمة اغتيال الرئيس العروبي الأشهر رشيد كرامي - رئيس حزب الوطنيين الأحرار -، فتهمة اغتيال النائب (طوني فرنجية) وعائلته فيما عرف حينها.. بـ(مجزرة اهدن) والتي لم ينجُ منها، فحكم عليه بـ(الإعدام).. إلا أن الرئيس (إلياس هراوي) خففه إلى (المؤبد)، ليتم إطلاق سراحه بـ(عفو).. من (المجلس النيابي)، الذي تشكل مؤخراً بعد خروج الجيش السوري من لبنان.. والذي يرى (جعجع) اليوم وهو يتقدم مرشحاً نفسه عن (حزب القوات اللبنانية) لسدة (الرئاسة اللبنانية) وسط دهشته وعجبه.. وربما استنكاره.. أمام خصمه اللدود ومنازله القديم بالبندقية والكلاشينكوف: (العماد ميشيل عون)..؟!
* * *
لقد كان ترشيحهما لـ(سدة) الرئاسة الأولى في لبنان - منذ البداية - مفاجأة سياسية من العيار الثقيل، فكلا الرجلين.. بتاريخهما المتماثل في انعزاليته، المتفاوت في دمويته.. أبعد ما يكونا عن أهلية حكم (بعبدا) ولبنان الجميل بكله: إنساناً وأرضاً.. حضارة ورقياً، ولذلك كان طبيعياً أن تتزايد غيابات أعضاء المجلس النيابي واعتذاراته.. بل وامتناع البعض من أعضائه كلية عن حضور جلساته بعد جلسة الثالث والعشرين من أبريل الماضي.. بما يقطع الطريق على تكامل نصاب عقد جلسته في محاولة لعبور أحد المرشحيْن للدورة الأولى الأصعب.. وصولاً إلى دورة (الإعادة) الأسهل في تأمين أصواتها، ويرحم (النواب) أنفسهم أو بعضهم على الأقل من لحظة انتخابية سوداء مشابهة، لتلك التي وجد الناخبون المصريون أنفسهم فيها في يونيه من عام 2012م أمام خياري: (شفيق) الفلول أو (مرسي) الإخوان، وهو ما أدخل رئاسة مجلس النواب.. في سلسلة من الإرجاءات من السابع من مايو إلى الرابع عشر.. إلى الخامس عشر منه.. دون أن تتحقق أغلبية من حضور النواب تمكن من عقد ذلك الاجتماع المرتقب، وهو ما يضع الكرة في ملعب (رئاسة المجلس) وبين أقدام رئيسه نبيه بري، إما بدعوة المجلس النيابي.. لـ»التمديد» للرئيس ميشيل سليمان.. إن قبل، أو بتسمية مرشح أو مرشحيْن آخرين من أعضاء المجلس النيابي ليجري التصويت عليهما في مرحلتين.. حسب منطوق الدستور اللبناني؟
على أن خيار (التمديد) للرئيس يظل هو الأفضل والأكسب للبنان وأمنه واستقراره.. في هذه المرحلة الدقيقة من عمره، لأن الرجل الذي استطاع خلال سنوات حكمه الست - مع «نجيب ميقاتي» رئيساً للوزراء فـ»تمام سلام» - أن يُخرج (لبنان) سليماً معافىً من أن يناله لهب الصراع الدموي الجائر في سوريا.. جديراً بتحمل (مسؤولية) التمديد لعام أو لعامين، حتى تظهر في أفق السياسة اللبنانية.. المعتادة على الأزمات، ملامح شخصية (الرئيس الجديد).. الذي ترضى به أو تتوافق عليه كل الأطراف، وكما حدث عند (التمديد) للرئس السلف (إميل لحود).. والذي جاء - فيما بعد - بالرئيسين (ميشيل سليمان) للجمهورية، ونجيب ميقاتي لـ(الوزراء)..؟!
* * *
إن الخشية من حدوث (فراغ دستوري).. في قمة هرم السلطة اللبنانية إذا لم يتم انتخاب رئيس خلف لـ(سليمان) التي ستنتهي ولايته في الخامس والعشرين من هذا الشهر.. ليس وارداً، كما قال رئيس الوزراء اللبناني الجديد (تمام سلام).. لأن الدستور اللبناني راعى احتمال ذلك.. بنقل سلطات (رئيس الجمهورية) إلى (رئيس الوزراء) مؤقتاً إلى حين انتخاب الرئيس الخلف، ولكن الخوف.. سيبقى ملقياً بظلاله الثقيلة على لبنان وكل مفردات حياته، إذا استمر هذا التجاذب المتوتر بين كتلتي (الثامن من آذار) و(الرابع عشر) منه.. والذي سيحول - وكما فعل.. حتى الآن - (معركة) انتخابات الرئاسة اللبنانية.. إلى (معصرة) لانتخاب (الرئيس)، لا يخرج من بين فكيها (أحد)!! وهو ما لا نرجوه ولا نتمناه.. لـ(لبنان): واحة الحرية.. وناديها الذي يخف إليه كل العرب إن سعدوا أو ضاقت بهم الضوائق..!!