شاب يافع بسيط وربما طيِّب، ينضم عفوياً مع مجموعة أصدقاء ثم ينضوي حماسياً بتنظيم حركي عنيف، فيفجر مبنى سكنياً لمدنيين، أو ينتقل لميدان المواجهة مع داعش مثلاً، ويقتل أحد رفاقه السابقين لمجرد أنه مع فريق آخر، وقد يمارس التمثيل بجثته..
وعندما يتم اعتقاله قد يظهر في يوتيوب كشاب وديع مسالم لا يؤذي نملة! كيف يتكون هؤلاء الشباب؟ هل هم نوع خاص من البشر؟ هناك تنوّع بالدراسات العلمية التي تفسر ظاهرة التطرف أو العنف. «فرويد» يفسرها بأن الإنسان له ميل غريزي للتدمير والعنف مثلما لديه ميل للمسالمة.. لكن عالم النفس أرنو جروين الذي لا يزال حيَّاً، عايش ذروة نجومية فرويد -كعالم نفس لا يقارع- وعارضه طوال حياته المهنية الأكاديمية والسريرية عبر فرضية علمية مثيرة. يصرّ جروين بأن جذر الآفة لدى الفرد تكمن في كراهية الذات. كيف؟ إنه غضب ناشئ من خيانة الذات التي تبدأ منذ الطفولة، عندما تستسلم الذات المستقلة للآخرين مقابل الحصول على «الحب» من أولئك الذين يتمتعون بنفوذ استبدادي علينا. للمشاركة بهذا النفوذ المستبد، يُظهر الناس ذاتاً مزيفة لإرضاء الآخرين.. إنها حالة نفسية دفينة عميقة الجذور تخشى التعرض للأذى أو الإذلال أو الإقصاء من الآخرين.. ألم يقل سارتر: «الآخرون هم الجحيم!»؟
تَتَبع جروين نمط المبالغة بالتكيف ومقاومة الضغوط النفسية الذاتية لتتطابق مع الآخرين، عبر دراسات الحالة، والظواهر الاجتماعية السياسية والأعمال الأدبية والفنية. وجد جروين أن جنون الغضب وفقدان الإحساس نتيجة الإفراط في التوافق مع الآخرين، لسوء الحظ، يذهب غالباً هباء لأن المجتمع الحديث أصبح بارداً، وقاسياً في واقعيته. هنا، يبحث المتوافقون البائسون عن ضحايا جدد ليشفي غليل غضبهم العنيف والثأر لجراحهم النفسية الدفينة.. «التي تؤدي إلى مشاعر الانتقام تجاه الحياة نفسها، وإكراه لقتل إنسانية المرء.» ويحذّر جروين بأن الهروب من هذه الأنماط لا يكمن ببساطة في التمرد على المجتمع، حيث المتمردون عادة يظلون خاضعين عاطفياً لهدف تمردهم، بل في تطوير الاستقلالية الشخصية والإقلاع عن جميع أشكال الذهول الذاتي (الانفصال) وخداع الذات..
أما آخر النظريات العلمية المثيرة فظهرت العام الماضي من فريق بحثي بجامعة أكسفورد ترأسه بروفيسور علم الأعصاب والمؤلفة العلمية كاثلين تايلور (مؤلفة كتاب «تفوق الدماغ»)، التي تذكر بأن العنف الناتج من التطرف الديني أو من أسباب أخرى هو مرض عقلي بالدماغ «قابل للشفاء». وأن ثمة تقنيات بيولوجية لمعالجة الدماغ هي الآن قيد التطوير للمساعدة في كبح التطرف بالمعتقدات.. وزعمت أيضاً أن السلوكيات العنيفة مثل إيذاء الأطفال يمكن أن تُعامل مع تقنيات مشابهة. تقول تايلور: «شخص ما مثلاً أصبح متطرفاً لأيديولوجية دينية، قد نتوقف عن رؤية تطرفه نتيجة لاختيار شخصي وإرادة حرة نقية وقد نبدأ التعامل معه على أنه نوع من الاضطراب العقلي.» إلا أن كامل نتائج الدراسة لم تظهر بعد..
لكن علم النفس الكلاسيكي يرى أن التطرف متنفس لمشاعر عاطفية حادة ناجمة عن التعرض للظلم، وانعدام الأمن، والإذلال، والاستياء، والخسارة، والغضب التي يفترض أن يؤدي بالأفراد والجماعات إلى تبني إستراتيجيات صراع تتناسب شعورياً بما يوازن قسوة هذه الحالات.. وبالتالي، فالمتطرفون يستخدمون العنف والإستراتيجيات المدمرة، ليس لأنها وسائل لتحقيق أهداف مفيدة، بل لأنهم يشعرون بأن ما يقومون به هو عمل خير وقصاص عادل..
ليس الاضطراب النفسي هو السبب الرئيسي الذي تطرحه الدراسات؛ فإضافة إليه ثمة أسباب أخرى حسب دراسة حديثة شاملة (بيتر كولمان وأندريا بارتولي) التي استعرضت الدراسات العلمية العالمية لأسباب التطرف. أولها اجتماعي وهو أن الظروف السيئة للاحتياجات الوجودية الأساسية (الفقر، سوء الرعاية الصحية والتعليم، والعمل، والأمن)، والحرمان من المشاعر الإنسانية الأساسية (الكرامة، هوية المجموعة، المشاركة بالقرار..)، والفجوة الآخذة بالاتساع بين ما يعتقد الناس أنهم يستحقونه وما يمكن بلوغه يؤدي إلى الأعمال المتطرفة؛ خاصة عندما تكون القنوات الطبيعية مغلقة للحصول على هذه الاحتياجات..
الثاني سياسي، ويأخذ شكلين:
1 - القادة السياسيون الذين يستفيدون من الظروف السيئة، لتحفيز التطرف (مثل تقديم المكافآت النقدية للأسر أو تأكيد الخير الذي يعود على «الشهداء» في الآخرة) وإضفاء شرعية قتالية من أجل لفت الانتباه إلى قضيتهم والوصول إلى السلطة.
2 - المجموعات المهيمنة التي تحاول الحفاظ على السلطة ومقاومة مطالب التغيير، تصف أعمال الجماعات المهمشة بأنها «متطرفة»، مما يثير أعمال متطرفة بشكل متزايد من هذه الجماعات التي تشعر أنها على حق كلما زاد تهميشها..
هناك أيضاً أسباب عقلانية، وهي أن التطرف إستراتيجية عقلانية في لعبة السلطة حسبما تطرحه دراسات ايلي بيرمان. إنها إستراتيجية فعَّالة لاكتساب والحفاظ على السلطة في البيئة الهرمية عندما تكون الموارد شحيحة ويصبح التنافس على السلطة هدف أساسي للحصول على الاحتياجات. هنا، يعمل التطرف بنجاح، لأنه يمكن أن يلفت الانتباه إلى قضية طرف على حساب الإضرار بقضية الخصم، ويعمل على توحيد هذا الطرف في مجموعة ضد عدو مشترك. هذا منظور شائع جداً وله شعبية في انتشار التطرف (كولمان وبارتولي).
آخر الأسباب المطروحة إيديولوجية.. وهي أن التطرف يظهر من الأيديولوجيات الأخروية؛ فغالباً ما تنال الأنشطة المتطرفة قيمتها المعنوية لأنها تتفق مع طوباويات شاملة (دراسة ميشيل ويسلس). تركز بعض هذه الإيديولوجيات على أنها ستزيل الكارثة المتمثلة في قوى الشر الحاكمة (الآخرون) وتمجيد الصالحين (المجموعة المتطرفة وحدها)، وبالتالي التأكيد على تدمير الآخر. وتشمل هذه النظم العقائدية: الخير مقابل الشر؛ الحاجة لتطهير الذات؛ معاقبة إلهية تتمثَّل في أعمال العنف المروّعة؛ وتصوير العمليات الانتحارية كاستشهاد عادل ونبيل.
تنوّع تفسيرات أسباب التطرف (اجتماعية، سياسية، نفسية، عقلانية، إيديولوجية..) يشير إلى اختلاف ظروف الدراسات واختلاف في تحديد ما هو التطرف.. فما يراه فريق تطرفاً قد يراه آخر غير ذلك.. أو ربما أن هذه المسببات مجتمعة بدرجة أو بأخرى ينتج عنها التطرف كظاهرة.. في كل الأحوال، ينبغي أن تُؤخذ الأسباب المذكورة وفقاً لخصوصية كل حالة، والقيم النسبية لنتائج الدراسات العلمية.. فليست فائدة هذا الاستعراض في تشخيص كل حالة على حدة قدر فائدتها في إعطاء تصور علمي أوسع مدى وتحسين مناهج تشخيصنا لحالاتنا الخاصة بالمنطقة العربية..