تولى وأبقى بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
ما أصعب فقد الصالحين المخلصين في عبادة الله، والمتفانين في خدمة أوطانهم وملوكهم، المتصفين بالأمانة والنزاهة، وعدم المحاباة فيما اؤتمنوا عليه من مال وأسرار بحسب مكانة كل إنسان وحجم مسؤولياتهم في المهام السياسية لتمثيل بلدانهم في المحافل الدولية، وتذليل العقبات الخاصة إن وجدت ..، فإن غياب مثل أولئك الأعلام يُحدث فراغاً واسعاً وفجوة عميقة يتعذر رَدْمُها - إلا ما شاء الله - وهذه الصفات مُجتمعة تتجلى في شخص فقيد الوطن معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء الذي لبى داعي المولى يوم الأحد 26-7-1435هـ - تغمده الله بواسع رحمته - وأُديت عليه الصلاة بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 28-7-1435هـ بجامع الأمام محمد بن عبدالوهاب الواقع قُبالة مقبرة النسيم شرقي مدينة الرياض، يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير مقرن بن عبدالعزيز ولي ولي العهد وجموع غفيرة من العلماء وأصحاب السمو الأمراء والوزراء، وعدد كبير من المصلين رجالاً ونساء داعين له بالرحمة والمغفرة، وحسن الوفادة من رب العباد، ولقد ولد الفقيد في مدينة عنيزة بالقصيم عام 1344هـ وترعرع في أكنافها بين أقرانه وأترابه كأمثاله من الصّبية في مُستهل حياتهم الطفولية، وظل بها حتى أكمل الابتدائية، ثم انتقل مع والده الى مكة المكرمة حتى أكمل المرحلة الثانوية، ثم حصل على الليسانس من دار العلوم بالقاهرة عام 1371هـ، والدكتوراه في التاريخ من جامعة لندن عام 1380هـ، ثم عين في العام نفسه أميناً عاماً لجامعة الملك سعود، ثم وكيلاً لها، بعد ذلك بفترة قصيرة عين وزيراً للصحة مدة عامين تقريباً، ثم وزيراً للمعارف مدة واحد وعشرين عاماً..، حتى صدر الأمر السامي عام 1416هـ بتعيينه وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء إلى أن لاقى وجه ربه، ولم تعقه أعماله الجليلة التي تسنّمها مدى عمره المبارك الطويل على التأليف، فقد صدر له اثنان وعشرون مؤلفاً بلغ عدد أجزائه ثمانين مجلداً، آخرها الجزء السادس والثلاثين من كتاب (وسم على أديم الزمن - لمحات من الذكريات عام 1435هـ):
مازلت تلهج بالتأريخ تكتبه
حتى رأيناك في التأريخ مكتوبا!!
وكان - رحمه الله - يَبعثُ لي باستمرار ثلاث نسخ من كل مؤلفاته، فأنا اعتبره بمنزلة الأخ الشقيق حباً واحتراماً، ومن أفضاله أن قدم لباكورة قلمي الكتاب (فقد ورثاء) ثلاثة أجزاء مع اختيار العنوان، وقد بالغ في وصف الكتاب - غفر الله له - وكنت أتشرف بزيارته في منزله بحي الريان الذي هو بمنزلة الصالون الأدبي، يؤمه الكثير من الوجهاء والأدباء، فيستقبل الحضور بطلاقة محياه البشوش الذي لا تفارقه الابتسامة وبالمنطق الحسن، فمجلسه لا يمل بما يُطرح فيه من أحاديث وقصص طريفة تُؤنس السامعين، ولكن سرور الدنيا لا يدوم أبد الليالي والأيام:
تقضت بشاشات المجالس بعده
وودعنا إذ ودع الأنس والعلم!!
وقد كان نجم العلم فينا حياته
فلما انقضت أيامه أفل النجم!!
فالأمل في الله ثم في ابنه المبارك الشاب الأديب محمد أن لا يهجر البَابَ حاجبُه بعد رحيل حبيب الجميع - أبو محمد - تغمده الله بواسع رحمته -، ولقد عُرف عن معالي الوزير الدقة والإخلاص أثناء تربعه على وزارة المعارف - آنذاك - عندما عرض أحد العقاريين مساحات من الأرض على الوزارة بأسعار مرتفعة لإقامة عدد من المشاريع والمدارس عليها، فلم يوافق على شرائها، ثم ذهب مُتنكراً حتى وصل الى صاحب العقار في مكتبه، فأخذ بالحديث معه فاشتراها بأقل من نصف القيمة المقدمة للوزارة، وهذا يدل على منتهى الأمانة والإخلاص، فكل أعمال - أبو محمد - تتسم بالأمانة والنزاهة. وقبل ختام هذه الكلمة الموجزة يحسن بي أن أذكر النص الذي قيل في الأحنف بن قيس لأعطِّر به هذا التأبين المتواضع، وهو نص ينطبق تماماً على مثل -أبي محمد- (قِيلَ لما دُفن الأحنف بن قيس وُقِفَ على قبره فَقِيل: نسأل الذي فجعنا بموتك، وابتلانا بفقدك، أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الخير دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك فوالله لقد كنت في المحافل شريفاً، وعلى الأرامل عطوفاً، ولقد كنتَ في الحي مُسَوّداً، والى الوالي مُوفَدّاً، ولقد كانوا لقولك مستمعين، ولرأيك مُتبعين). وقيل ما سُمع كلام أبلغ ولا أصدق معنى من ذلك، ولئن توارى عن نواظرنا حبيبنا وبات تحت طيات الثرى، فإن ذكره الطيب وذكرياتنا معه باقية في طوايا النفس مدى العمر..
ختمتُ على وِدَادِك في ضميري
وليس لا يزال مختوما هناك!!
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته وأسكنه عالي الجنان والهم ذويه وإخوته وأخواته وابنه محمد وشقيقاته وعقيلته أم محمد الصبر والسلوان. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.