في خاطر سريع نحو الشرق الأقصى تتراءى لك صورة التنين وأيقونته، والرجل الحاسر بوجهه الأصفر المفدور، وعينيه الضيقتين الباردتين، وسحنته الجادة المحايدة. ولأول علم بقرار رسمي للولوج إلى هذا العالم تخايلك العجائب والفرائد من الطبيعة الملونة، بإقليميتها ذات الملامح
المختلفة، وقصص الخيال الشعبي من بيئة السهل والجبل، والآلة العجيبة.. النتيجة المنطقية لسيناريوهات الحدب الآلي في ممارسة الحياة، والبحث اللاهب بانطوائية مدهشة حتى العصر الحديث، وفي أبواب القرن الحادي والعشرين حتى تتبع الوجوه والأشكال التي تعكس حال المناخ النفسي والاجتماعي والعلاقات البشرية! وهي صورة تفضي إلى مسار خطه «النظام» في الداخل والخارج. ومن هنا أتساءل: هل لطبيعة الوضع الديموغرافي والسلطوي دور في شكل الحياة الآلية الآن؟ أم أن الطبيعة البشرية تشكلت بقاعدة صلبة من تقاليد اجتماعية صنعت مجال حركة الرجل الصيني كما الجسد الذي انصهر بعوامل مختلفة وفي قالب محدد.
تلك الإشكالية ألقت بظلالها على الجاليات الجديدة العاملة في وظائف رسمية أو في دراسات أكاديمية، من حيث الارتباك في التعامل على الصعيد النظامي، أو الفردي مع رجل الشارع، إذ إن هذا العدد الملياري المهول وتلك الحياة الضاربة في الصخب ألجأت الحكومة إلى اتخاذ الخطوات الصارمة لضبط حركة الأفراد والجماعات بلا رحمة، وصار العنصر المنفلت من ربقة النظام محل بطش وعبرة مما جنح بذلك الأخطبوط إلى مد ذراعه إلى جميع الوافدين وتطبيق سائر الأنظمة بلا مجاملة أو هوادة. وتلك ضرورة ألجأت الحزب الحاكم إليه لإنعاش الجسد المنهك من حروب مجاورة، وتهديدات إقليمية، وتحديات داخلية في رقعة مترامية، وجيل يستشرف الخارج ويتتبع حياة نوعية جديدة مدت أضواءها إلى عقر التنين.
وصار الوافد «الشرق أوسطي»، وبفعل ثقافته الراسخة التقاليد يتقلب في مناخات رقمية لا تعرف المواربة ولا التوسط ولا العاطفة، فاصطدم بجدية النظام وحدية رجل الشارع. ونتيجة للصرامة والتلقائية المقننة في الممارسات اليومية نلحظ ارتباكا في التعاطي مع رجل الشارع والحياة العامة بسبب من الاختلاف الثقافي ورؤية الأشياء بخلفية مغايرة. فحينما يُحتَل العقل الطارئ على تلك الثقافات بأخلاقيات محددة وفي إطار ذي نسق موجه فلا شك أن يصطدم بالمقابل، وقد ينفعل بسبب التفكير في وعاء آخر. وبعد تجاوز الصدمة ومرحلة القلق يتفهم أصحابنا - مع مرور الوقت والتجربة - طبيعة الناس والحياة والأنظمة بالمعايشة، في حين تتأرجح التفسيرات مرة بالعنصرية أو الانتهازية أو العداوة المبيتة لخلفيات آيديولوجية، بينما الحقيقة بعيدة كل البعد، مع عدم نفي وجود ما سبق، إلا أن الطابع العام يرجح المصلحة القريبة والآنية على مستوى رجل الشارع أو في أنظمة الدولة.
والأمثلة متجسدة في الحياة العامة: فمثلا قد يغتاظ السائح من وسوسة موظف المطار بتدقيق وفعل روتيني معتاد. وقد يتألم من سير الباص بعد وقفة لثوان بينما يلهث الراكب أمل الوقوف، أمام «بلادة» السائق وتجاهله. وقد يتوتر المشتري من بجاحة البائع في إصراره على «هللات» بينما يقبض في اللحظة ذاتها منه الآلاف. وقد يدق عليك «صاحب الشقة» لأنك تأخرت يوما في دفع الإيجار. وقد ينط عليه حارس مواقف الرصيف لدفع ثمن موقف لثلاث دقائق. وقد تعرقل معاملة حكومية أشهرا لمخالفة «تافهة» في أعرافنا المحلية.
ولو تأملنا ذلك لوجدنا أن الصيني نفسه يعاني في دقائق حياته اليومية التي ذابت بفعل التعاطي اليومي فاستحالت جزءا من حياته، فيتجاوزها بالتفاهم مع بني جلدته، بينما نحن نتعذب في التواصل بسبب من اختلاف اللغة الغريبة الشكل والنطق والصوت، واختلاف الترميز الخاص بثقافتهم بلغة الإشارة الباردة وفيما يتفق عليه بين الشعوب. بينما تتخذ تلك الإشارات الأولية معاني مختلفة وتفاصيل تفضي إلى مرام ليست بالحسبان. وأقرب الرموز ما يتعلق بالأرقام حتى في العرف الصيني العام. وذلك بسبب الاختلاف النوعي وبعد الشقة بين ثقافة قصية وثقافة مركزية. وربما أن تلك الثقافة وأعرافها لم تتمكن من نشر رواقها على العالم بتمكين شامل بوساطة دين عالمي أو استعمار عسكري يتبعه استعمار ثقافي. ولذلك لفهم المجتمع الصيني نحتاج إلى تفكيك ثقافته إلى أجزائها.
فالزمن في حياتهم اليومية صارم، والممارسات نفسها في العطل الرسمية، والبروتوكول الغذائي في وقته لا يحيد حتى في معمعة العمل وفورة النشاط والراحة في أوانها ولا مفاصلة فيها، لأن المرء يدرك بأنه يوفر طاقته للعمل، وفي انتظار يوم شاق، ولذلك طغى مفهوم الاستغناء عن المقصر مهما كانت دوافع التقصير، فلا عجزة ومن تقعد به همته عن العمل. واعتقد بأن «الحزب الحاكم» اضطر إلى اتخاذ دائرة «المستبد العادل» شعارا عمليا يعفيه من مؤونة الحرية الثقافية وضريبة التعددية التي قد يستغلها المعارضون في الداخل لضرب الحزب ومخلفات الشيوعية الفاترة حالياً، وقد تمتد - المعارضة - إلى ذراعها الغرب لتصيب نخاع الهوية الصينية والعمق التاريخي لها. فأصبح «النظام» شرطيا عملاقا خرج من القمقم كاتما على أنفاس المواطن ليعيش حياة مسيرة لا مخيرة إلا في حدود مؤطرة ينتشي فيها ويحلم فيها ما وسعته الأحلام ويستيقظ ليدب بطبيعته النملية التي اعتادها.. وهكذا..
ولعلني في مقال قادم أواصل الكتابة عن الفروق المجتمعية بين الشرق والشرق والناتجة عن مفارقات في أصل النظام، مع الأخذ بأسباب أخرى لا تتجزأ عن فحوى الموضوع..