من المؤلم جداً أن نسخّر كل طاقاتنا وذواتنا في أشياء كمالية لسنا في أمس الحاجة إليها، في حين يسخّر آخرون كل طاقاتهم وذواتهم في سبيل الحصول على الخبز. هذا يجلب الشقاء لنفسه
وذاك أتاه الشقاء على طبق من تعب وكدر وضيق.
خلود بنت السنوات التسع
ذات الشعر الذهبي المسكون بغبار الطرقات
رأيتها في زيارة إلى إحدى الدول وهي تعرض بضاعتها (إن صح أنها بضاعة) فوق أحد الأرصفة ممسكة بقلم رصاص وبين يديها كتاب
بدا لي وأنا أرقبها من بعيد أنها تذاكر
اقتربت منها ورغبة جارفة تجتاحني لسبر أغوار هذه الطفلة
كيف يستطيع من يحمل كل هذا البؤس أن يذاكر
قلبتُ بضاعتها كمن يدعي الرغبة في الشراء
ابتعت منها مشطاً ثم سألتها: ما اسمك يا شاطرة؟
ردت وابتسامة خجلى تنتزعها من أكوام البؤس: خلود
الله ما أجمل هذا الاسم
وكم عمرك يا خلود؟
تسعة
ما شاء الله.. تدرسين؟
بطفولة أجابت: أيوا.. بكرا عندي امتحان
أي إصرار على الحياة هذا؟
لو تعلمين يا خلود أن أمماً من الناس تصر وتسعى وتستميت في الجهل رغم ما تملكه
تحدثت معها كثيراً.. وأخذت تفاصيل عن كل شيء في حياتها حتى بتنا أصدقاء أو قريباً من ذلك
لم أعرف أن للشقاء عناوين أخرى كما عرفتها من خلود
ولم أعرف أن بعض البؤس نعمة إذا ما قورن ببؤس آخر
وليس الخبر كالمعاينة
ودارت رحى الأيام
وعرى العلاقة بيني وبين خلود تزداد توثقاً يوماً بعد آخر
اعتدت عليها حتى باتت جزءاً من يومياتي
أشتاق إليها وإلى حديثها المليء بالطهر والفقر والسذاجة والقهر
يكفيها صنيعاً أنها الوحيدة التي جعلتني دائم الارتباط بالأرض عندما تدعوني نفسي للطيران عالياً هي من أرتني الوجه الآخر للعالم وفتحت لي الباب على مصراعيه
في المقابل كان الطريق إلى منزلي يحتم علي المرور من أمام بسطتها
لذا كانت كثيراً ما تقلق إذا ما تأخرت عليها ليوم أو اثنين
وعندما أعود بعد غياب تبادرني باللوم والعتاب بعباراتها البسيطة
وين كنت؟ ليه تأخرت؟
ثم ما تلبث أن تعود المياه إلى مجاريها وكأن شيئاً لم يكن
مثل هذه الفرص لم تكن لتمر مرور الكرام
سألتها: خلود.. ما هي أمنيتك؟
تجيبني ولا تدري ما الذي تفعله بي إجاباتها: فستان
أجبتها: (بس فستان)؟
فتجيبني نظرتها باندهاش جعلتني أخجل من نفسي
عرفت أن (الفستان) لأمثالها غاية وطموح
قررت من فوري أن لا تبيت ليلتها إلا والفستان بين يديها
في المساء عدت إليها بالفستان لكنها لم تكن في مكانها لتأخذه
ما الخبر؟
سألت عنها هنا وهناك
والجواب؟
قضت في حادث
أدركت جنازتها في اليوم الثاني
ولكن!!