سنوات من العمل والكفاح والتعب، وتنقل بين الدول والمهمات ملبياً نداء الوطن، وفروسية وأخلاق ورجولة صاحبت سنوات حياته، هذا هو عبدالله بن عبدالعزيز الأحمد السديري كما عرفته، وعملت تحت إدارته، وكما أخذت منه الدروس في صناعة القرار والتعامل مع الآخرين.
***
رجل يختزن فكراً إدارياً خلاقاً ومتطوراً، في شخصية تتسم بالتواضع، وحسن المعشر، ومساعدة الناس، وإعطائهم حقهم من الاحترام والتقدير، دون أن يتنازل عن متطلبات القيادة والمسؤولية، أو يفرط بما أؤتمن عليه.
***
شرَّق وغرَّب، يبحث عن علم يخدم وينفع به وطنه، وعن عمل يسهم به في إعلاء شأن ديار هام في حبها، وتنقَّل بين المدن والقرى والدول في مهمات رسمية كان هو خيار القيادة لها، فيعود بعد كل تكليف رسمي متوجاً عمله بالنجاح، ومن كل رحلة كان فيها سائحاً بحصيلة من الوعي الذهني والثقافة الواسعة.
***
غيَّبه المرض في السنوات الأخيرة عن أحبائه وأصدقائه، لكن نجاحاته وسنوات عطاءاته وتفوقه بقيت حية في أذهان محبيه، مثلما أن ذكرياته الجميلة تتردد كلما ذُكر اسمه، أو قُرئ التاريخ بشكل صحيح، ما يعني أننا أمام غياب اسم كبير ولامع وناجح ومجدد في كل موقع تسنم فيه مسؤولية من المسؤوليات.
***
في سيرته هناك ما هو أهم وأعمق من هذا الكلام، تنوع في المسؤوليات، وعمل بدأب في أكثر من مجال، وتعليم مبكر ونوعي تلقاه بين بيروت والولايات المتحدة الأمريكية، فكافأته القيادة بأن اختارته لأكثر من موقع، ولأكثر من مسؤولية، وحافظت عليه اسماً لا يغيب عن اللجان المهمة.
***
تلقى تعليمه الابتدائي بالمملكة، والمتوسط والثانوي في لبنان، والجامعي في السياسة والاقتصاد من الولايات المتحدة الأمريكية، وعاد إلى وطنه الحبيب شاباً طموحاً يبحث عن موقع يقتفي فيه آثار والده للعمل الذي يكون فيه امتداداً لوالده العظيم، ومحاكاة لوالده -القدوة- في إنجازاته الكثيرة والعظيمة.
***
كثيرة هي الأعمال التي تولاها، أميراً لمنطقة القريات خلفاً لوالده، ووكيلاً لوزارة الداخلية للشؤون البلدية والقروية، ثم نائباً لوزارة الشؤون البلدية والقروية، كما عمل سفيراً في كل من الكويت والبحرين والأردن، وفي كل منها كانت له بصمات من النجاح، وأدوار مشهودة في التجديد والتطوير الذي شهدته هذه القطاعات وغيرها.
***
كان الفقيد موضع ثقة ولاة الأمر، يعتمدون عليه خارج نطاق عمله، فقد كلفه الملك فيصل رئاسة بعثة السلام إلى اليمن الشقيق، كما كلفه برئاسة لجنة تخطيط الحدود السعودية - الأردنية، ولو لم يكن أهلاً لهذه المسؤولية، وعلى مستوى من القدرة في إنجاز ما كلف به لما اختاره الملك الشهيد لهذه المسؤوليات الكبيرة.
***
وعلى المستوى الشخصي، والمبادرات الأخرى الكثيرة والمهمة، فهو من أشاد أول مدرسة للبنات على حسابه الشخصي منذ حوالي ستين عاماً في القريات، وهو ذاته من أسس أول جمعية تعاونية متعددة الأغراض بالمملكة في القريات أيضاً، كما أن اهتمامه بالثقافة قاده إلى فتح مكتبته الخاصة للجمهور، ولم ينسه ذلك عن بناء مسجد باسم ابنه صخر في القريات، وفي جانب منه أشاد مكتبة للمطالعة، وعدداً من المحلات التجارية التي تؤجر وينفق من ريعها على خدمات ومتطلبات المسجد.
***
يهمني وقد كان -رحمه الله- رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة الجزيرة خلال الفترة الأولى من عملي رئيساً لتحرير صحيفة الجزيرة، أن أشير إلى المهنية العالية في إدارته للمؤسسة، والجدية غير العادية في المتابعة، والمرونة والدعم في سبيل تطوير الصحيفة، بما ساعد على أن تكون الجزيرة هي الصحيفة الأولى في المملكة. ولعله من المناسب أن أشير إلى موقف واحد ضمن مواقف كثيرة تظهر هذا الحس غير العادي في دعم العمل الصحفي، فقد كان هو بطل ورائد إدخال أول مطبعة أوفست من نوع (القوس) إلى المملكة، بعد أن تردد مجلس الإدارة في شرائها لتكاليفها المادية العالية، فما كان منه -رحمه الله- إلا أن اشتراها على حسابه شخصياً، وقال إنها له، وللجزيرة أفضلية على نفسه بعد وصولها فيما لو فكر مجلس الإدارة مستقبلاً في شرائها.
***
وفيما كانت المكينة تشق طريقها محملة على إحدى البواخر العملاقة إلى ميناء جدة، ومن ثم نقلها براً عن طريق الناقلات إلى الرياض، كان هناك ارتفاع في سعر صرف الدولار وعروض مغرية للشراء، لكن الرجل رفض البيع لأي جهة إلا لمؤسسة الجزيرة وبسعر الشراء، ولما عُرض الأمر في اجتماع آخر لمجلس الإدارة، وافق المجلس على الشراء بذات السعر الذي اشترى به الشيخ عبدالله السديري المكينة، وهذا الموقف كغيره من المواقف، كغيره من الإنجازات، تبين أي نوع من الشخصيات هذا الذي نودعه ونتحدث عنه بعد كل هذه العطاءات.
***
رحم الله الفقيد الغالي، فقد كان نعم الأخ والوالد والرئيس، ولن ننسى -كمحبين- هذا التاريخ المضيء الذي صاحب حياته بكل تفاعلاته ونشاطاته وتنوع مسؤولياته وأعماله، وهو إن مات، فإن هذه الأعمال، وهذه السيرة العطرة، ستبقى خالدة وحيّة، ومثلاً تذكرنا بأن رجلاً ومواطناً كان بهذه الصورة وعلى هذا المستوى في البذل والإيثار والعطاء الذي لم يتوقف حتى أقعده المرض ومن ثم مات.