في معظم دول العالم وخاصة الغنية منها يحرص الكثير من أرباب الثراء ورؤوس الأموال - مهما كان مستواهم المادي - أن يكون لهم حضور فاعل ووهج ساطع بين أبناء المجتمعات التي يعيشون بين أكنافها، يبدو هذا الأثر الملموس في استفادة بلدانهم ومجتمعاتهم من هذه الثروة التي يظهر عطاؤها غالباً في مشاريع إنسانية بارزة متعددة في مجالات علمية وصحية واجتماعية وترفيهية وتدريبية وتتمثل في هذه المشاريع الحيوية صفة الديمومة، حيث يتوارث رعايتها والعناية بها وتنميتها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد، ولذا تجد الأجيال المتتابعة في تلك المجتمعات الواعية لا تنقطع صلتها بالرواد الأفذاذ تحيي ذكراهم وتشيد بمكارمهم وتأخذ القدوة من سيرتهم؛ لأن تلك الأجيال ترى أمامها ثمرات العطاء في تلك المشاريع الخيرية التي تعتمد على مصادر استثمارية تكفل استمرار ونماء تلك المجالات الإنسانية لآجال غير محددة.. ومن النادر جداً أن تخلو وصية ثري من هؤلاء الأثرياء من التأكيد على مشروع إنساني أو اقتطاع جزء كبير من ثروته لفئات فقيرة معينة أو بناء مبرة خيرية أو مستشفى أو المساهمة في تكاليف أبحاث لعلاج الأمراض المستعصية وإغاثة ضحايا الكوارث المختلفة وغير ذلك من تلك المسارات الإنسانية في ميادين الخير والبناء حتى جمعيات الرفق بالحيوان وحماية البيئة ينالها نصيب من ذلك. ولكن في بعض الدول النامية أو ما يسمى بالعالم الثالث وفي مقدمتها الدول العربية وبلدنا واحدة منها في المقدمة، فالصورة تختلف أو تنعكس تماماً تقريباً لأن أكثر الأثرياء عندنا لا همّ لهم ولا هدف إلا جمع المال والتكالب على تكديسه بشتى الطرق والوسائل ومن أي مصدر كان، وعندما ترى حالهم وطريقة معيشتهم ومن يحيط بهم فسوف ترثي لحالهم وتشفق عليهم وإذا بذل أحدهم فإن نفسه لا تسمح إلا بالنزر اليسير خوفاً وطمعاً.. خوفاً من العيون التي ترمقه أو مداراة لبعض الجهات الفاعلة التي تصطاده في المناسبات التي يجد نفسه مضطراً لحضورها. أما الطمع فهو حرصه على أن لا يفوته نصيبه من كعكة المشاريع المتجددة المغرية التي يتهافت وينتحر على أخذ حظه الوافر منها، ومن أجل ذلك فهو يدفع القليل للحصول على الكثير من أجل أن تتراكم ثروته وتتضاعف أرصدته. نذكر على سبيل المثال بعض النماذج ممن تبرعاتهم صورية وهزيلة، وهو ما نطالعه بين حين وآخر من تسوير ملعب ريفي أو تأمين (ماطور) كهرباء لهجرة نائية شبه خاوية أو تبني كري دعائي باسمه في إحدى الجامعات عن تطوير نما النخيل في منطقة زراعية عريقة توارث أهلها هذه المهنة أو كرسي بمبلغ متواضع عن دراسة التصحر أو البيئة وما شاكلها من هذه المواضيع العائمة أو إقامة عمارة وقفية يشيب الغراب دون الانتهاء من استكمالها واستغلالها..
أما الوصية كما هو السائد والمشهور في أوساط أصحاب الثروة والثراء في مجتمعنا فهو عندما يودع الدنيا وتخترمه يد المنون فمن النادر أن تجده أوصى بشيء يذكر ذي بال أو قيمة قياساً بثروته الطائلة، وإذا حدث فهو في نطاق ضيق ومجال محدد لا يتعدى قيمة أضحية أو حجة أو بناء مسجد بجوار منزله يشترط أن تكون الإمامة ووظيفة المؤذن لأقاربه ليؤثرهم بالسكن والراتب الدائم من قِبل الجهات المختصة عن المساجد، وبعضهم يستجيب في أيامه الأخير، وبغفلة من أبنائه الذين تتلمذوا على يديه بالبخل يستجيب أحياناً لنصح بعض المحتسبين المخلصين فيوقف إحدى عمائره القديمة أو جزءاً من إحدى مزارعه ليكون ريعها للفقراء والمعوزين من أقاربه الذين ربما تتحسن ظروفهم ويتحقق بره وصلته بهم بعد مماته.. وهذه الأمثلة وما شاكلها هي السائدة مع الأسف بدليل ندرة المشاريع الخيرية الفعّالة التي تفتقدها وصايا كبار معظم الأثرياء مثل إقامة المستشفيات أو بناء المدارس أو مبرات خيرية واجتماعية أو بناء مساكن للفقراء أو مساعدة الشباب على الزواج حتى ان أكثر الأثرياء في بلادنا مثلاً خاصة ممن يملكون الشركات الكبرى والمؤسسات والمجمعات التجارية ويضيفون المليارات في أرصدتهم سنوياً لا يستفيد ابن الوطن ومن حولهم من هذه الثروة في قليل أو كثير؛ لأنهم يؤثّرون في العمل لديهم العمالة الوافدة يستقدمونها بالآلاف وتتكدس تحت كفالتهم فيكون بعمله هذا سبباً رئيسياً في البطالة السائدة التي تزداد عاماً بعد عام في بلده غير مدرك أو غير مكترث إطلاقاً بتبعاتها ومضاعفاتها المدمرة، وكيف يرجى منه خير وهو لا ينفع نفسه، حيث نراه يعيش حياة الضنك لاهثاً وراء المادة، وبعضهم لوضوح سوء التغذية والحرمان في ملامحه وتجاعيد وجهه لا تتورع أن تقترح إعطاءه من الصدقة والزكاة تجاوباً مع الآية الكريمة {لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
ولا أجد غضاضة في هذا المقام من إعطاء صور مختصرة ولقطات معبرة من الواقع المعاش عن سيرة بعض الأثرياء في حياتهم وتكالبهم على المادة والحرص على جمعها بجميع الوسائل والسبل، أحدهم يملك آلاف الملايين وبعض أقاربه يسكن في بيوت ذات صبغة مزرية وحالة يائسة يرثى لها، والبعض الآخر تجد بعض أقاربه لم يتمكن من الزواج لضيق ذات اليد.
وهناك أحد كبار الأثرياء منذ عشرات السنين وحتى قبيل وفاته كان يقوم برفقة سائقه أو بواسطة أبنائه بتوزيع ألبان مزرعته الخاصة على بعض الوجهاء والموسرين التماساً لرفدهم وهداياهم السنوية التي اعتاد عليها رغم أنه يملك مئات الملايين ولم يلتفت أو يهتم بالمشاريع الخيرية حتى في حدود ضيقة ومقترة إلا بعد أن أقعد المرض العضال أحد أبنائه فبنى مسجداً للعامة بجوار مزرعته وتبرع بسيارة قديمة لأحد فروع الهلال الأحمر.
وأحد كبار الأثرياء ممن يملكون آلاف الملايين ويحصدون المشاريع والمناقصات الدسمة زاره بعض الطلبة المتخرجين يشكون حالهم من الفراغ والعوز ويطلبون توظيفهم لديه برواتب محدودة أسوة بآلاف العمالة الوافدة التي تحتضنها شركاته ومؤسساته ومجموعاته التجارية المحظوظة فما كان منه إلا أن أركبهم بجانبه وذهب بهم وفي مدخل وزارة الخدمة المدنية ودعهم هناك وتمنى لهم التوفيق.
وأعرف شاباً حديث التخرج والزواج ذهب قبل عشرة أعوام إلى ثري بمرتبة ملياردير يلتمس منه تخفيضاً محدوداً لأجرة شقة في إحدى عمائره المتناثرة في كل مكان وبعد استنطاق وتحقيق وأحلاف مغلظة خفض له من الإيجار السنوي خمسمائة ريال ولم يغضب هذا الشاب ولم يترفع عن القبول بها عملاً بالمثل الشعبي القائل (خذ الحفنة من اللحية العفنة).
وما ذكرته سلفاً ما هو إلا صفحة واحدة فقط من كتاب البخلاء المعاصرين في بلادنا، إلى هنا أكتفي بهذا القدر من الأمثلة وهي كثيرة والتفصيل فيها بلا شك يبعث المرارة في النفس، ولكنها خواطر ولقطات سريعة جالت بخاطري وأنا أقرأ قبل أيام لأحد كتابنا الأفاضل عاتباً على كبار أثريائنا في عدم مساهمتهم الجادة والفعّالة في المشاريع السياحية والترفيهية من أجل الحد من السفر المتواصل للخارج في جميع الأوقات والمناسبات، حيث إن بعض المدن وفي مقدمتها عاصمتنا الحبيبة تكاد تكون فارغة في فصل الصيف وطيلة أوقات العطل الرسمية والمدرسية في كل عام.. والسبب ندرة المرافق السياحية والترفيهية الجاذبة وغياب القطاع الخاص في هذا المجال الاستثماري وإذا قدّر لأحدهم القيام بأي مشروع سياحي متواضع ولو بصورة محدودة فهو قبل ذلك يضرب أخماساً بأسداس ويفكر سنين طويلة ويحسب ألف حساب لما سوف يدخره سريعاً من هذا المشروع، وبعد تردد وطول انتظار يقدم على ذلك وعينه على القروض الطائلة الميسرة التي سيحصل عليها والأراضي شبه المجانية أو ذات الأجور الرمزية من البلديات لعشرات السنين، وبأحسن المواقع وضمان النجاح المسبق لاستثماراته التي سيعتمد بتشغيلها وإدارتها على العمالة الوافدة من عاطلي الشعوب الأخرى، وخير ما نصف به الواقع المزري الذي نعيش فيه والحالة التي يسير عليها معظم الأثرياء عندنا ومن حولنا في استثماراتهم داخل بلادنا فقط انهم يشبهون الضرس الأعلى لدى الإنسان يعني يأكلون ولا يؤكل عليهم وبعضهم ربما لا يتورع من أخذ الصدقة والزكاة أو التحايل على أموال الضعفاء والمساكين بدليل جمود أو إفلاس كثير من الشركات المساهمة نتيجة المصاريف النثرية الضائعة والمكافآت المضاعفة التي يأخذها كبار المساهمين المتنفذين.. والله المستعان.
مسك الختام: قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (10) سورة المنافقون