تأبى هذه الساحرة المستديرة أن تتنازل عن عرشها ملكة للألعاب الرياضية قاطبة، تجمع في عشقها الرئيس والمرؤوس، الوزير والغفير، والصغير والكبير سناً ومكانة ومن الجنسين. بل إنه إبان الحرب الأهلية اللبنانية والتي استمرت خمسة عشر عاماً (بدأت في 1975)، كان القتال ودوي الرصاص والقذائف يخف وتتراجع وتيرته عند عرض مباريات كأس العالم
نظراً لانصراف المقاتلين والمرتزقة إلى شاشات التلفاز لمتابعة مباريات المنتخبات المشاركة في هذا المهرجان الساحر.
أكتب هذه السطور ومباراة منتخبي فرنسا وسويسرا على أشدها تجري وهي مناسبة لتناول الخلفيات الحضارية لمثل هذا التجمع العالمي الذي يتجاوز الرياضة إلى الاقتصاد والسياسة والثقافة والسياحة وكل المكونات الحضارية بدون مبالغة. منتخب سويسرا نصفه من عرقيات مختلطة وأصول غير سويسرية، فمنهم من أصله من كوسوفو كاللاعب الخلوق شريدان شاكري نجم بايرن ميونخ، إلى جانب لاعبين من أصول ألبانية وتركية وإسبانية وتشيلية.
سويسرا، واحة العالم وخزينتها وملهمة الصناعة المتقنة، منتخبها يمثلها ويعرض صورة موجزة للمجتمع السويسري المتعدد الأعراق والأصول تجمعهم هوية وطنية واحدة، يمثلونها في هذا الكرنفال ويدافعون عن ألوانها دون أن تؤثر خلفياتهم الدينية والثقافية سلباً على هذا التمثيل بل على العكس تشكل رصيداً حضارياً يمنحهم توازناً واندماجاً في مجتمعهم الجديد دون انسلاخ عن دين أو ثقافة طالما أن هناك حرية اختيار وديمقراطية ناضجة.
ألم يرفض اللاعب السويسري المسلم شريدان شاكري التصوير مع فريقه بايرن ميونخ بعد فوزهم بكأس أندية أوروبا لأن التصوير كان يلزم اللاعبين بحمل زجاجات (الشراب) ضمن حملة دعائية للشركة الراعية، ومع ذلك زاده ذلك الامتناع احتراماً لأنه احترم دينه برغم جنسيته السويسرية.
الحالة نفسها مع منتخب فرنسا والذي يغلب عليه لاعبون من أصول غير فرنسية، وهذا هو كريم بن زيمة العربي الأصل يسعد الجماهير الفرنسية بأدائه الرائع وانضباطه الأخلاقي والرياضي مع مواطنيه الفرنسيين، ما يمثل حالة الدولة المدنية في أوضح صورة، مجموعات بشرية هاجرت من بلدانها إما طلباً للعيش أو هرباً من حرب تأكل الأخضر واليابس، استقروا واندمجوا في هذا البلد أو ذاك كسويسرا مثلاً، التزموا بقوانينها وأدركوا مالهم وما عليهم فاستحقوا جنسيتها مثلهم مثل السكان الأصليين دون تمييز أو انتقاص.
يقول رئيس الاتحاد السويسري أن بلاده انتهجت سياسة رعاية المواهب في سويسرا أياً كانت أصولها فاستطاعت سويسرا تكوين منتخب شارك في كأس العالم عام 2006 و2010 وهذا العام في البرازيل!، فانظر إلى حسن التخطيط والاستثمار في العنصر البشري وبالتالي النجاح على المستوى الدولي اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً إلى جانب المجال الرياضي والذي هو أضحى صناعة قائمة بذاتها.
قلوبنا مع ممثل العرب الوحيد منتخب الجزائر الأخضر ودعواتنا له بالتوفيق للظهور بمستوى يعكس توق هذا البلد للحياة والاستقرار، وليت لاعبي هذا المنتخب العربي يحرصون على التحدث بالعربية بدل الفرنسية احتراماً لهويتهم حتى يحترمهم الآخرون، هذه المسألة على صغرها بنظر البعض إلا أنها تعكس معاني الالتزام والانضباط والإخلاص وهي مكونات بشرية يحتاجها كل مجتمع يرنو إلى البناء والتطور. كأس العالم ليس كرة وحسب، بل تفاعل حضاري وكرنفال اجتماعي واقتصادي وسياحي كوني لا نظير له، وكل كأس عالم وأنتم ترفلون بأثواب الصحة والفرح.