لقد طوى الموت صديقاً نبيلاً عزيزاً على قلبي، إنه الفقيد الجليل معالي الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن أحمد السديري، وعندما أكتب عن الصديق معالي الشيخ عبد الله السديري، لأنني تعرفت عليه منذ فترة زمنية طويلة تقارب نصف قرن، ووقفت على كثير من مراحل حياته العملية في نظام الدولة السعودية، وأصبح صديقاً وفياً في كل علاقاتي الشخصية معه. إنه شخصية مخلصة وأشد إخلاصاً ووفاءً سجله التاريخ وتعاون بكل إخلاص مع مؤسس الدولة - رحمه الله -، ثم مع أبنائه من الملوك وهم سعود، وفيصل، وخالد، وفهد - طيّب الله ثراهم جميعاً -، والآن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - رعاه الله - وولي عهده الأمير سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله -.
لقد ترك أبو عبد العزيز بصماته في كل موقع قدم فيه خدماته، وترك آثارها في تراث المملكة وفي المشاريع التي حققها من أعماله باذلاً كل جهد ليحقق مرضاة الله تعالى، ثم رضا نفسه، إنه رجل ذو إنسانية عالية متواضعة لا يحب الظهور في وسائل الإعلام.
وما أبهج صحبة الناس السموحين الكرام، إنهم يترفعون عن توافه الأمور ويركزون فكرهم غريزياً على كل ما هو خير وإيجابي حولهم، خلافاً لذوي النفوذ الصغيرة الذين يجهدون لإظهار تقدمهم وبداعتهم ومعرفتهم وأصالتهم.
وما أصعب تداعي الذكريات لأصدقاء مخلصين صادقين بالمودة والمحبة، حيث يدين الإنسان أوراقه ليرثي عزيزاً غالياً عليه، أو ليتحدث عنه، وهو قد أصبح في عالم الخالق الأوحد وفي عالم الخلود ودار الآخرة.
وأقول الحقيقة: لعلي أكون مغالياً إذا تحدثت عن ملامح شخصية الصديق الراحل من خلال معرفتي به وكانت أعمارنا متشابهة قد تختلف بين عامين فقط، ووقفت على كثير من مراحل حياته العملية في وطنه وتحمل كل مسؤولياته وإخلاصه لقيادته الحكيمة. لقد تولى أبو عبد العزيز مسؤوليات متعددة وشملت مناصب كبيرة وعمل في كل مسؤولياته بشكل متوازن، وهذه ميزة قليلاً ما نجدها عند أمثال من ذوي المناصب الرفيعة.
وأكرر بأن الراحل رفيق وصديق ذو أخلاق رفيعة، وانتقل إلى وجه ربه بعد حياة كريمة دامت 87 سنة ميلادية، وعلينا أن ندعو له ونذكره بكل خير وعن أعماله التي حققها في حياته كما أمرنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فالراحل الكبير أبو عبد العزيز إنسان مخلص لدينه، ووطنه، وكان أربح الناس حظاً في هذه الحياة وأقدرهم على تنفيذ مواهبه وحكمته في قوله تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269 سورة البقرة).
لقد كان الراحل يعامل الناس من المواطنين بالحسنى والمسؤولية المتمتع بها، وعندما يزوره صديق في منزله يستقبله بوجه كريم مما يجعل الضيف يشعر أنه في بيته.
والحقيقة منذ أن غادرنا هذا الصديق الصدوق أصبحت أشعر بالحزن العميق، وبألم الوحشة في غياب صديق بمقام نسيب الروح كما كان الأخ نسيب الجسد. والمرء لا يصنع الأصدقاء، بل يتعرف عليهم ليختار الصالح بينهم ويشعره بأنه مقبول كلياً.
ويقول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي عن الصديق والعدو:
ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
ولا تستلهن الصعب أو إدراك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
فالأصدقاء هم أولئك النادرون الذين يسألوننا كيف نحن وينتظرون لسماع الجواب. لذلك يحتاج الإنسان من كبار السن إلى أصدقائه القدامى لكي يتقدم بالعمر، وخير الأصدقاء شخص يتصف بالبساطة والصراحة ولا يدعي العظمة، ومن أجمل عطايا الله الخالق العظيم أن يكون لنا صديق مخلص يمحض الحب لذاته وليس كوسيلة لغاية أخرى.
وقال أحد الحكماء الكرام:
الناس اثنان موتى في بيوتهم
وآخرين في بطن الأرض أحياء
فالممتلئون حيوية وقوة ومروءة
هم وحدهم الذين تثقل كواهلهم
لقد عاش الفقيد الجليل (87) سنة كانت مليئة بالخير والمحبة وفي أي موقع تقلده في مسؤولياته وفي خدمة وطنه، ولم يعامل نفسه برفق ورحمة وهذه هي الحقيقة الصحيحة التي لاحظتها في علاقتي معه حتى جاءه القدر ليلقى الراحة الأبدية في حياته.
إن الفقيد الراحل عندما كان مسؤولاً عن وكالة وزارة الداخلية لشؤون البلديات إلى جانب رئاسة إدارة مؤسسة الجزيرة للصحافة والنشر منذ عام 1384هـ الموافق 1964م في أول عهد الملك فيصل بن عبد العزيز - طيّب الله ثراه - حيث اختاره صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز - طيّب الله ثراه - وزير الداخلية آنذاك لهذا المنصب الحساس في نظام المملكة لتقديم الخدمات العامة للمدن والقرى، وهي تضطلع بمسؤولية التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة على جميع البلديات ومصالح المياه وإدارات العيون والمرافق ومشاريع الكهرباء. وكانت في ذاك التاريخ عدد البلديات ما يزيد على ست وخمسين بلدية عدا الفروع والمراكز وثلاث إدارات للعيون وإدارتين للمرافق وعشرة مشاريع كهرباء. بالإضافة لمشاريع المجاري وتصريف مياه السيول وغير ذلك من مسؤوليات أخرى وكان معالي الشيخ عبد الله السديري ببذل كل اهتمامه في سبيل تحقيق هذه المنجزات بنفسه، وفي السنوات الماضية أصبح لتلك الإدارات مسؤولون خاصون لمعالجة قضاياهم وكان يعالج أمورها شخص واحد هو عبد الله السديري رحمه الله.
وأتيح لي زيارة وكيل وزارة الداخلية وهو الراحل وتعرفت عليه ورحب بي أجمل الترحيب وحدثني عن مشاريع الوكالة، مؤكداً بأن الملك فيصل والأمير فهد يحرصان على أن نهتم بكل خدمات المرافق العامة وفي وطن حديث.
لقد أصبحت جريدة (الجزيرة) مؤسسة تشارك في ملكيتها وإدارتها مجموعة من رجال الصحافة والثقافة والأعمال عند صدور نظام المؤسسات الصحفية في 24-8-1383هـ الموافق يونيو 1964م، وصدرت معها جريدة مسائية في شهر محرم 1402هـ الموافق نوفمبر 1986م ثم توقفت المسائية. وأصبحت مؤسسة الجزيرة عملاقة في صحافة المملكة.
والراحل الجليل معالي الشيخ عبد الله السديري كان رئيس مجلس إدارة (الجزيرة)، ومن حقنا أن نتحدث عن الفقيد الجليل لأنه أمضى ما يقارب (32) سنة من حياته وهو يدير مجلس إدارة جريدة الجزيرة بكل وجدان وإخلاص ورفع مستوى الجريدة لمكانها اللائق في المجال المحلي والعربي لتكون من أكبر الصحف السعودية.