قال أبوعبدالرحمن: خلق الله العقلَ آلةً لفهم الوجود وتمييزه على ما هو عليه بالتدبُّر والتبصُّر، وألهمه الحُكْم في الأشياء من العلاقات بينها والمفارقات بالتذكُّر والتفكُّر، وخلق القلب مستودعاً لِيَقِينه؛ لِيُحرِّك الجوارح فتعمل ببرهانه، وليُفيض عليه من نور العقل فيستقر بإيمانه، ولا تنقص الشبهات والشهوات ودعاة التضليل من رسوخه واطمئنانه.. ولم يكلِّف الخالق جل وعلا عقلنا المخلوق شططاً بالضياع في الظنون لِيَشْقَى بحيرته، بل منحه النور المبين بمبادئه الأولية على مقتَضى فطرته، وجعل المحسوسات مصدر علمه وأحكامه؛ لينطلق من المعلوم إلى معرفة المجهول؛ ولهذا خاطبه ربُّه سبحانه بآيات كثيرة جدّاً يردُّه فيها إلى المحسوس؛ لتزول أوهامه وأهواؤه كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ، فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[سورة البقرة 72-73]، وذكر ديار المغضوب عليهم كقوم لوط فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[سورة الصافات 137- 138]، وجعل العلم ذخيرة العقل كما في قوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } [سورة العنكبوت43].. ولم يُرِدْ منهم سبحانه المعرفةَ مجردةً من العمل، بل أراد العلم باعثاً للعمل، وهادياً للسلوك كما في امتنانه على الأمة ببيان آداب الأسرة في الاستئذان والمؤاكلة، ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [سورة النور 61]، وهكذا لما نهاهم عن موالاة الكفار مذكِّراً إياهم بتجربتهم الحسية؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران 118]، وأراد منهم الانتقال من الواقع المشهود إلى معرفة الواقع المغيَّب؛ فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الَْحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [سورة البقرة 164]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة يونس13-16]، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة الحديد 16-17].. ومن الحسِّ الذي أحال الله إليه عقولَ عباده؛ ليفيدوا منه علماً بأخبارِ مَن قام ببرهانِ العقل صدقُه، أو أحال العقل كذِبَه: أخبارُ التواتر كما في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [سورة آل عمران 65]، وقوله سبحانه عن الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [سورة يس 62]؛ فكل هذا عرفوه بوسائل منها الأخبار المتواترة.. وأراد منهم سبحانه في الانتفاع بعقولهم المعادلة بين المصالح والمفاسد كما في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كََّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [سورة الأنعام 31-32]، وقوله تعالى: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [سورة الأعراف 169]، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة القصص 59-60].. وكما أكرم الله برحمته وعدله المنتفعين بعقولهم بالفوز، ورفع عن المجانين المؤاخذة: توعَّد بعدله العابثين بعقولهم تلاعباً واستهزاءً وكذباً وتحكيماً للهوى والشهوات، وجعلهم كمن لا عقل له من جهة الانتفاع لا من جهة رفع الوزر؛ لأنهم استعملوا عقولهم في غير ما خُلقوا له.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [سورة البقرة 168-171]، وقال سبحانه: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة 58]، وقال سبحانه: {مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [سورة المائدة 103].وما كان الكفار شرَّ الدواب إلا لاستعمالهم عقولهم فيما يضر.. قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} [سورة الأنفال 22]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (48) [سورة يونس 48].. والتفكُّر عمل العقل ليصل به إلى الحقيقة، وقد استحثه الله ليعادل بين المصالح والمفاسد كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [سورة البقرة 219]؛ فكلُّ هذا مسيرةُ قومٍ عَرفها المخاطبون بالمُشاهدة أو بالتواتر، وكلها عبثٌ بالعقل؛ فكانوا بكل هذا السياق المعلوم غير منتفعين بعقولهم.. ومِفتاحُ الانتفاع بالعقول التأمُّلُ فيما يظهر من حِكْمة الله في تدبيره؛ ولهذا استحثَّ الله العقل لِينْظر في حكمة الخلق للاهتداء إلى الخالق.. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[سورة آل عمران 190-192]، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [سورة الروم 8].. أما القلبُ واللُّبُّ والفؤادُ فكلها تترادف على معنى واحد، وإن اخْتُلِف في مأْخذ الاشتقاق، والقلب هو محل الانفعال بالمشاعر، ومحل إضمار المعتَقَد، وكرسيُّ الإيمان بالشيئ أو جحده أو الشك فيه.. وكل ما يصل إليه العقل من يقين أو رجحان أو احتمال لا أثر له في السلوك حتى يتحوَّل إلى عقيدة في القلب، ويكونَ العزمُ مُسْتَبْطَناً في طَوِيَّته؛ ولهذا ذكر الله في أكثر من موضع ارتباط الانفعالات والسكون بالقلب كلإيمان والطمأنينة والخشوع والإخبات والوجل والرعب والارتياب والنفاق.. وارْتَبَطتْ الألبابُ في كتاب الله بالتذكر والاعتبار والتَّقْوى؛ لأن إيمانَ القلب هو باعثْ السلوكِ كما أسلفتُ، بل خُوطب القلبُ بما يُخاطَب به العقل من الفهم والإصغاء والفقه؛ لأن إيمان القلب حينئذ كسبيٌّ بإذن الله عندما يستقر فيه تفكيرُ النظر السليم؛ فكأنما هو العقل المفكِّر كما في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [سورة الحج 46]؛ فالقلب يعقل إذا كان سليماً؛ لأنه استقبل مقتضى العقل بلا تحيُّز للأهواء والشهوات، والقلب يَعْمَى؛ لأنه استبطن من النيات والعزائم مقتضى الشهوات، ولم يستقبل نور العقل.. وهكذا كل من ضل بالصدِّ عن مصادر المعرفة من الحس والعقل، وبتعطيلها اتباعاً للهوى.. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [سورة الأعراف 100-103]؛ ففي هذه الآيات بيان عدل الله إن شاء أن يضلَّهم جزاءَ إصرارهم على العناد، وظُلْمهم أنفسهم، وظلمهم عبادَ الله، وظلمهم شرعَ ربهم بجعلهم نور العقل الهادي سبيلاً للضلال والإضلال.. هذا معنى {فَظَلَمُواْ بِهَا}، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف 179]؛ فالقلب يفقه؛ لأنه كرسيُّ ضرورات العقل،الأعين والسمع اللذان يعرفان مباشرة مُعَطَّلان عن الاهتداء بمنفعة البصر والسمع، ومن هذا شأنه قد يُعجِّل الله عقوبته بإضلاله جزاءً لا ابتداءً كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} [سورة الكهف 57].. وشرْطُ قبول القلب نَظرَ العقل الصحيح أن يكون سليماً من مُضِلاَّت الفتن، وإن انحرف آناً لم يَمتْ، بل يكون قلقاً مُتَلوِّماً.. ولقد مدح الله ذوي القلوب السليمة بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء 89]، وقال عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الصافات 84].. والله سبحانه بفضله واصطفائه يمتن على قلبٍ من قلوب عباده فيملؤُهُ باليقين والإيمان.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه: «إنَّ الحلال بيِّنٌ، وإنَّ الحرام بيِّنٌ، وبينهما أُمورٌ مُشْتَبهَاتٌ لا يعلمُهُنَّ كثيرٌ من الناس؛ فمن اتَّقَى الشُّبُهَات فقد اسْتَبْرأ لدِينِه وَعِرْضِهِ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحرامِ كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْل الحِمَى يُوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه.. ألا وإنّ لكلِّ مَلِكٍ حِمَىً، ألا وإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، ألا وإنَّ في الجسد مُضْغَةً إذا صَلَحتْ صَلَحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فسد الجسدُ كله؛ ألا وهي القلبُ».. وعلَّق الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم 1/218-220 بقوله: «وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنَّ في الجسد مُضْغَةً إذا صَلَحتْ صَلَحَ الجسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فسد الجسدُ كله؛ ألا وهي القلبُ) فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتِّقائه للشبهات: بحسب صلاح حركة قلبه؛ فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه: صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتنابُ المحرمات كلِّها، وتوقِّي الشبهات؛ حذراً من الوقوع في المحرمات.. وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه الله: فسدت حركات الجوارح كلِّها، وانبعثت إلىكل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب؛ ولهذا يقال: (القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده).. وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيئ من ذلك؛ فإن كان المَلِك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [سورة الشعراء 88-89]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللَّهُمَّ إنَّي أَسالُكَ قَلْباً سليماً)؛ فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله، وما يحبه الله، وخشية الله، وخشية ما يباعده منه.. وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه عن أنس [رضي الله عنه] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيمُ إيمان عبد حتى يستقيم قلبه»، والمراد باستقامة إيمانه استقامة أعمال جوارحه؛ فإن أعمال جوارحه لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئاً من محبة الله تعالى وطاعته وكراهة معصيته.. وقال الحسن لرجل: (داوِ قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم).. يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم؛ فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها معرفة الله وعظمتُه ومحبتُه وخشيتُه ومهابتُه ورجاؤه والتوكل عليه وتمتلئ من ذلك.. وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى قول: (لا إله إلا الله)؛ فلا صلاح للقلوب حتى يكون إِلَهُهَا الذي تؤلِّهه وتَعْرِفه [الصحيح وتعلمه؛ لأن المعرفة للبصر والسمع] وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السموات والأرض إله يُؤلَّه سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض كما قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سورة الأنبياء 22]؛ فعُلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلهما وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته؛ فإن كانت حركته وإرادته لله وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كلِّه، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله فسد وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركة القلب».
قال أبوعبدالرحمن: ويكونُ العقلُ شاهداً ليقين القلب وصحته كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [سورة الحجرات 7]، وقال سبحانه: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ } [سورة البقرة 97]؛ فهذا يقينٌ وحقٌّ أوْدَعَهُ قلبَ عبده ورسوله محمد منحةً دون اكتساب فكري، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} [سورة الشعراء 193-194].. وبإيجاز فأداة العقل في استظهار الحق بالذكاء، وأداة السلوك المستقيم بالزكاء، ولا زكاء إلا بقلب سليم تقي.. وصلوات الله وسلامه وبركاته على عبده ورسوله محمد بن عبدالله الذي جاء بهداية العقول، وزكاء القلوب.. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [سورة الأحزاب 45].. ألا إني وإخواني المُسلمين يحمدون ربَّهم لكماله، ويحمدونه لآلائه؛ فهو الذي يخلق الشيئ من لا شيئ، ويخلق الشيئ من الشيئ.. يخلق بيده جل وعلا، ويخلق بأمره، ويُقدِّر ما شاء على من شاء؛ فيكون خالق الخلق وما عملوا.. قال سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [سورة الفرقان 2]؛ فهذا شامل للشيئ قبل أن يكون شيئاً؛ لأن المعدوم يكون شيئاً إذا تعلَّقت به المشيئة، ويكون حتماً إذا تعلَّقت به مشيئة القادر.. كما أنه شامل للشيئ من الشيئ.. وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر 49]، وقال تعالى: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة المائدة 17]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم 27].. والله هو الأول، وكل الكون عدم محض، ثم بدأ الله الخلق من العدم بمقتضى مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته.. ويأتي الخبر من الله بأنه خالق كل شيئ، ثم يُتْبِع ذلك بصفة أوصفات من قيُّوميَّته كقوله تعالى: {قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [سورة الرعد 16]، وقوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الزمر 62].. والمادة، والمبادئ، والصيرورة كل ذلك حقٌّ كائن في الوجود، ولكنه كان بعد أن لم يكن؛أن الله خالق كل شيئ، ولأن وجود كل شيئ مسبوق بالواحد الأول الحق المبين؛ فالمادة والمبادئ في عدم محض حتى خلقها الله.. وأما خلقه سبحانه وتعالى الشيئ من شيئ سابق فأدلته نصوص كثيرة مثل قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [سورة النحل 4]، وقصَّ عن إبليس لعنه الله قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [سورة ص 76].. وأما خَلْقه بأمره سبحانه وتعالى فبرهانه قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة النحل40]؛ فهذا أمره الكونيُّ خلافاً لمن عَمِي عن دلالة أمره الشرعي؛ فهو هادٍ إلى الانتفاع بأمره الكوني؛ فله سبحانه الأمرُ قبل الخلْق والتدبير الكوني؛ فلا شيئ يكون إلا بالتقدير المسبوق بتدبيره؛ ولهذا سبق خَلْقَه السماوات والأرض أمْرُه الكوني قبل أن يخلُقُهنَّ بخمسين ألف سنة بِتَقْدِيره ما سيكون من أحوالهن.. وللهِ خلق قبل ذلك مسبوق بأوَّليته سبحانه لا نعْلمه، بل نعلم ما علَّمنا من دنيانا هذه.. وهو فعَّال لما يُريد بعد الفصل في القضاء، ودخولِ المُكلَّفين منازلهم بحكم أنه الآخر لا شيئ بعده، وأنه الحيُّ الباقي الدائم.. والشيئُ في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس 82] هو المراد إيجاده ما تعلَّقت به المشيئة، وكل ما شاءه ربنا دخل في عالم الوجود.. وإذا أراد العبدُ صُنْعَ شيىءٍ فالشيئ متصوَّر ذهنياً عنده، فهو موجود في الأذهان، ولا يوجد في الأعيان إلا بمشيئة الله.. وقال سبحانه: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [سورة فصلت 11]؛ فهذا أمره الكوني بعد خلقه.. وخلق بيده؛ فقال سبحانه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص75]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [سورة يس 71]، والجمع لمفردة (أيدينا) في هذا الموضع دلالة على معنى المَلِكِ المُسَخَّرةُ مخلوقاتُه [صفةُ المَلِك هو جملة (المُسَخَّرةُ.. إلخ) بالضم] لطاعته، وفيها معنى القوة في لغة العرب.. وهو سبحانه فعَّالٌ لما يريد، يزيد في الخلق ما يشاء.. قال سبحانه {يَزِيدُ فِي الْخَلْقَِايَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة فاطر1]، وقال تعالى: {أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون 14]، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [سورة الإسراء 99]، وقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} [سورة القصص 68]، وقال سبحانه: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة إبراهيم 19]، وقال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة النحل 8]، وقال تعالى: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [سورة الذاريات 47]، وجمع الأيدي ههنا على معنى القُوَّة في لغة العرب.. وأما خَلْقُه أعمالَ البشر وصُنْعَهم؛ فلأنهم لا يُوجِدون من عدم، بل صُنْعُهم مما خلق الله لهم؛ ولأنهم لا يُوجِدون على غير مثال، بل مثالهم من الطبيعة مركَّباً أو مُجَزَّءاً.. ولأنهم يصنعون ويَكْتَشِفُون بمواهبَ ومهاراتٍ وجوارحَ خلقها الله لهم؛ ولأنهم مخلوقون يعملون بقدرته وإرادته؛ ولهذا كان الخلق بحقيقته اللغوية لله وحده، ولا يستحق أحد مِن خلْقه أن يتسمَّى بهذه الصفة على حقيقتها وإطلاقها.. قال تعالى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة الأعراف 54]، وقال سبحانه: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [سورة لقمان 11]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات 96].. وهم لا يعملون على غير مثال؛ لأن الله سبحانه هو المبدع على وجه الحقيقة والإطلاق.. قال سبحانه: {أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [سورة الرعد 16]، والخلق المُطلق في اللغة يكون بمعنى فِعْلِ الفاعل حال فعله، ويكون بمعنى مفعوله الذي هو فعله والمراد ههنا المعنى الثاني.. وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة البقرة 117]، وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [سورة الأنعام 101].. وبما أن الخلق إيجاد من عدم،على غير مثال من فِعْلِ مُبدِع آخر جاء الخبر القرآني الكريم بالخلق بدلاً من الإيجاد؛ لأن الخلق أخص، وأما الإيجاد فقد يكون مجرَّدَ الإلفاءِ؛ فتكون أنت وجدته أو أوجدتَه غيرك وأنت لم تخلقه، ولقد وردت مادة (وجد) في القرآن الكريم كثيراً خبراً عن الله في الأقلِّ كقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [سورة الضحى 7] وخبراً عن المَخلوقين في الأكثر كما في قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} [سورة يوسف 79].. ولم ترد فيه بمعنى الخلق ألبتة... ولم ترد كلمة « العدم « في كلام الله ألبتة، وإنما ورد (لم يكن) مثل قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [سورة مريم 9]، وقوله سبحانه: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ} [سورة الأنعام 101]، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ} [سورة الإسراء 111]، وقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [سورة الإنسان 1]؛ والسر في ذلك والله أعلم أن العدم إنما هو في حق البشر بالنسبة إليهم، فالموجود المُغَيَّب معدوم عِلمُه عندهم إلا بوصفه بخبر معصوم، أو مِن معرفة آثاره، وما أرادوه ولم يقدروا عليه فهو معدوم وجوده في حيلتهم وحولِهم، وأما ربنا سبحانه فليس عنده عدم، بل عنده سبحانه المشيئة الاختيارية إذا أراد شيئاً كان بعد أن لم يكن، فصفة العدم في حقه سبحانه أنه لم يشأْه.. وهو في حكم الموجود؛ لأنه إذا شاءه كان؛ فلله الحمدُ بما تتضمَّنه هذه الكلمة من مدح وشكر؛ فهو محمود ممدوح بجلاله وكماله، وهو محمود مشكور على نعمه وآلائه.. لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
قال أبوعبدالرحمن: منذ خلق ربنا السماوات والأرض كانت آيات الله فيهما لهداية المخلوقات إلى أن تقوم الساعة.. ومنذ خلق الله الجنَّ والإنس بعد ذلك كانت البيِّنات (من كون الله، وبما فطرهم الله عليه من قُوى الإدراك): تقهر عقولهم وقلوبهم فلا ينحرف إلا معانِد وهو عبدٌ لهواه وشيطانه وإلْفه، ولا تكليف ولا حساب على مسلوب الحظِّ من كل ذلك إذا فقد الوعي والاختيار؛ فالتكليف حسب ما عند المكلَّف من القدرة والاختيار.. وآيات الله في شرعه بيِّنات بكل ما سبق من نصوص، وما لم أذكره أكثر، وثمرة كل ذلك تحقيقُ توحيد الله سبحانه وتعالى.. وفي حدود عام 1405هـ فاتحني أحد الشباب مستغرباً تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وأن ذلك ليس عليه برهان من دين الله.. ثم هاتفني آخر مستغرباً (توحيد الأُلوهية)، وأن ذلك يعني تعدُّدَ الآلهة..
وهؤلاء الشباب يومها - ولا أدري مَن تراجع، ومَن لم يتراجع - مأسورون بتعليمات الحركيين، وجمهورهم لا يجعل تحقيق التوحيد شرطاً لوحدة الهدف والصف معاً، بل من إخوانهم في الدين كفرة الباطنية، وأهل الحلول والاتحاد من الصوفية.. وكل محقق للتوحيد من دين الله فهو وهابي؛ وإنما أعلم قليلاً منهم حقَّق التوحيد كالشيخ حسن الهضيبي رحمه الله تعالى، وما أندره بينهم.. وهذا الموضوع طويل الذيول سأتناول منه اللباب الذي يليق بحجم هذه الخطبة؛ فأما تقسيم التوحيد فمعناه ثابت محصور في الشرع بشرط الجمع والمنع، وأما الاصطلاح فلا مُشاحَّة فيه، ولا سبيل إلى ضبط العلم إلا به؛ وإنما المشروط صحة الاصطلاح ببرهان تصحيح من اللغة، وبرهان على أن المصطلح عليه صحيح في الشرع أو في أي حقل علمي آخر.. وبالاستقراء الجامع المانع وُجِد أن توحيد الله ثلاثة أنواع لا رابع لها يتعلَّق بها حمد الله الجامع معنيي المدح والشكر؛ فالأول توحيد الله في الكمال المطلق والتقديس المطلق بأسمائه الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم مما استأثر الله بعلمه؛ فذلك اصطلحوا عليه بتوحيد الأسماء والصفات، وصفات الرب أسماء لله؛ لأنه لا يستحقها على الكمال غيره؛ فالمعنى صحيح في الشرع وعليه دليل صحة من اللغة مباشِرة ومطابِقة؛ فمعنى (توحيد الأسماء) الإيمان بأنها له وحده، والله سبحانه هو الممدوح بها وحده؛ وذلك أحد معاني الحمد؛ فله الحمد مدحاً وشكراً؛ فتقول عند ذكرها (سبحان الله وبحمده)؛ لتجمع المدح والشكر والتنزيه.. والثاني توحيد الربوبية بمعنى توحيد الله بأفعاله الصادرة عن أسمائه جل جلاله؛ فكل رحمة من عنده، وكل قدرة من عنده.. إلخ؛ فجعلوا توحيد الله بأفعاله توحيدَ ربوبيةٍ أخذاً من معاني الرب؛ وهذا يقتضي الحمد والشكر.. والثالث توحيد الله بالعبادة التي طلبها ربنا من عباده، وبها يتميز ما هو عادي وما هو شركي؛ فسَمَّوا ذلك توحيد الألوهية؛ أخذوا ذلك من تألَّهَ تألهُّاً؛ فالألوهية اسم من التألُّه يدل بصيغته على بذل الجهد لبلوغ أقصى ما يُقْدر عليه من إحسان العبادة؛ فتوحيد الألوهية توحيد الله بنياتنا وأقوالنا وأفعالنا وَفْق ما شرعه لنا ربنا؛ فهذا المعنى صحيح في الشرع باصطلاح دالٍّ لغةً من معنى التوحيد والتألُّه، وهو يقتضي المدح والشكر.. ومن أقر بصحة هذا الاصطلاح والتقسيم
- والحقُّ واجبٌ الإقرار به - فيلزم مواجهته إذا أنكر المجاز والحقيقة تقسيماً ومعنى بدعوى أن الشرع لم يرد بهذالاصطلاح؛ فيقال: (يلزمك إذن الانصراف عن النور المبين في تقسيم أنواع التوحيد والاصطلاح عليها).. والاشتقاق هو الركن الركين في معرفة الحقيقة والمجاز، وهو قطعي بالاستقراء اللغوي، وعليه دلالة من الشرع بالحديث الصحيح عن حق الرحم، وأنها من صفة الرحمن جل جلاله.. وتوحيد الألوهية أوَّلُ ما يجب على العباد، وهو أول دعوة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه حتميُّ الوجوب من الإيمان بالإله المتفرد بالكمال والتقديس في نفسه جل جلاله، والمتفرد بتدبيره في خلقه؛ ولهذا كان الزمن الطويل من عُمْرِ كل رسول بعد بعثته إقامةُ البراهين على وحدانية الله في صفاته وأفعاله.. وأما التعاملُ مع أنواع التوحيد فيختلف؛ فبالنسبة لتوحيد الألوهية فأدلة تطبيقه من المحكم الجلي الواضح؛ لأن الله بين غاية البيان العبادات والآداب، واشترط نية المقصود بالعمل، وهو الله وحده.. وبيَّن ضرورة تمييز العبادة المقصودة كصيام رمضان وصيام الأيام البيض، وأما الصيام التطوُّعي غيرُ المُحدَّد فلا نية فيه غير نية المقصود بالعبادة.. وفي هذا التوحيد ما يسع فيه الاختلاف؛ لتعارض الأدلة في ذهن المجتهد كالجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية، وكسكْتة الإمام قبل قراءة الفاتحة، وكتحية المسجد في وقت النهي أباحها من استدل بجملةِ (هي من ذوات الأسباب)، وهذا كلام بشر، وليس نصاً شرعياً، والراجح عندي تأجيلها إلى خروج وقت النهي؛ لأن ترك المحرَّم مقدَّم على فعل الطاعة، والتخلية - بالخاء ذات الواحدة من تحت - قبل التحلية بالحاء المهملة، ويُعْكَسُ عليهم اسْتِدْلالُهم بأنَّ التأجيل قبل زوال سبب النهي مُسَبَّبٌ (من ذوات الأسباب للتأجيل)؛ فالاختلاف في هذا بعد بذل الجهد وصدق التحري لمراد الله هو الذي فيه أجر ومعذرة للمخطئ .. وأما توحيد الربوبية فهو من المُحْكم الذي لا يجوز الاختلاف فيه؛ فمن خالف فيه فإيمانه بتوحيد الأسماء مختل.. ألا ترى أن في سورة النساء آيةً تثبت أن الحسنات والسيئات من الله؟.. ثم يَأتي بعدها مباشرة: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا} [سورة النساء 79]؛ فالسيئة من الله بالنظر إلى أن المكلف فعلها بالقدرة والحرية التين منحهما ربه إياه، وهو قادر حُرٌّ على فِعْل الخير.. وهي من نَفْسِ المكلَّف؛ لأنه اختار فعل السيئة وهو قادر على الحسنة؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: {لِلنَّاسِ رَسُولاً } (79) سورة النساء؛ لأنه بيَّن لهم الخير والشر، وقد ملَّكهم الله الحرية والقدرة على فعل ما يختارونه منهما؛ فخلاف المعتزلة وغيرهم في مثل هذا خلاف في المحكم الذي عطَّلوه .. وأما توحيد الأسماء فهو محكم من جهة ومتشابه من جهة، وهكذا كل واقع مغيَّب أخبر الله عنه؛ فهو محكم بنصوص بيِّنةِ المعاني محكمةٍ مشروطةٍ بالمَثَل الأعلى لله، وهو الكمال المطلق والتنزه المطلق، وهي من المتشابه عند ابتغاء المآل تكييفاً وتحديداً وتشبيهاً وتخرُّصاً وتأويلاً بمصطلح أهل الكلام؛ لأنه يَجُزُّ إلى تعطيل النص من معناه؛ إذن تلك النصوص لا يحل فيها الاختلاف، بل هي على الإيمان والتسليم واليقين، ولا يحل لمسلم أن يُدخِل علم الكلام في ذلك كقولهم: (هل الله مَحَلٌّ للحوادث، أو غير محلٍّ لها)؛ فطرح هذا ليس من نصوص الشرع، وليس من ممارسة السلف، وليس اتباعاً لهم بإحسان، بل نؤمن بأن الله بكل شيئ محيط كبير متعالٍ لا يملك الخلقُ إلى ذي العرش سبيلاً، ونؤمن بأنه قريب منهم إذا شاء لا يحجبه عنهم طولُ زمنٍ أو بُعدُ مسافةٍ، ونؤمن بأن السموات والأرض مطويات بيمينه جل جلاله؛ فهل نردُّ خبر الشرع بسفسطة: (هل الله محل للحوادث، أو غير محل لها).. ولا يجوز التخرُّص بالعقل المُرسَل، والاستدلالُ على الغيب بأوهام العقل، ومجانفة النص الصريح كقول المعتزلي: « إن الله لا يعلم الجزئيات «؛ فهذا عطَّل مدلول {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة البقرة 29]، وعَطَّل البيان المفصل في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سورة الأنعام 59].. وكل من أدخل الأقيسة وثقافات الفلسفة وعلم الكلام مهما كان وزنه وقدْره في العلم فهو غير سلفي في هذا الباب، بل يُخاف عليه من الزيغ؛ وذلك مثل الجوهر، والجسم، وهل لله حدٌّ، وأن فعل الله حادث غير مخلوق.. بل الله يفعل إذا شاء بعلمه وقدرته وحكمته، وهو الأول في كل ذلك لا شيئ قبله، وهو الآخر في كل ذلك لا شيئ بعده؛ لأنه الحي الباقي الدائم.. وكلتفريق بين الذات (يريدون النفس) والصفات؛ وإنما ذلك في حق المخلوق الذي يستجِدُّ له صفة حادثة، والله سبحانه وتعالى هو نفسه بكل صفاته، وإلى لقاءٍ قريبٍ عاجِلٍ إن شاء الله، واللهُ المستعان، وعليه الاتكال.