عرضت دراسة علمية آراء الفقهاء في تعريف الوقف، مبينة أنهم على أربعة أقوال بالنظر لاختلافهم في فروعها واختلافهم في الطرق التي يتبعونها في التعريف، وكذا اختلافهم في الحكم التكليفي للوقف بين مجيز له ومانع منه.
جاء ذلك في صفحات الدراسة البحثية التي قدمها أنس بن رضوان بن عبد الكريم المشيقح بعنوان: (الوقف المنقطع وأحكامه الفقهية) إلى قسم الفقه المقارن المعهد العالي للقضاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية نال على ضوئها درجة الماجستير في الفقه المقارن، حيث خلص من الدراسة إلى اختلاف تعريفات الفقهاء للوقف على أربعة أقوال بالنظر لاختلافهم في فروعها واختلافهم في الطرق التي يتبعونها في التعريف، وقد اخترت تعريف ابن قدامة -رحمه الله- ومن وافقه بأن الوقف هو: (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة)؛
لأسباب وأدلة أوردتها في البحث، واختلاف الفقهاء في الحكم التكليفي للوقف بين مجيزٍ له وهو قول جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، ومانعٍ منه كالشعبي وشريح، ومفصّلٍ فيه كابن حزم، وأوردت أدلة وردود كل قول من تفنيد وإثبات وتبييّن، وقد اخترت ما اختاره جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة من أن الوقف مشروع مستحب ومندوب إليه؛ لقوة أدلتهم؛ ولرجوع أبو يوسف بعد المناظرة التي دارت بينه وبين الإمام مالك بحضرة الرشيد.
وبالنسبة للمقاصد الشرعية للوقف وخصائصه فقسمها قسمين: حكمة مشروعية الوقف ومنها: الاستجابة لأمر الله سبحانه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - واستمرار الأجر للمسلم أثناء حياته وبعد موته... ومساعدة للضعفاء والمحتاجين... وصلة للأرحام بما يوقفه المسلم على قرابته... وصيانة للأعيان من عبث السفهاء... والقسم الآخر: أهمية الوقف، ومنه: أنه سبب رئيس في قيام المساجد والمحافظة عليها... والمحافظة على الناحية العلمية... وإيجاد فرص عمل متعددة... إغلاق أبواب الانحراف بإيجاد مصارف خيرية للعديد ممن تلجؤهم الظروف إلى سلوك دروب انحراف بسبب الفقر... وتأمين لمستقبل الموقف والموقف له... ودعم للجهاد عند المسلمين والمحافظة على قوة دولة الإسلام.
وأشار إلى أن للوقف أركان أربعة: الصيغة، والواقف، والمال الموقوف، والموقوف عليه، وبالنظر لهذه الأركان تختلف الشروط وتتنوع وتتعدد، فمنها شروط تتعلق بالصيغة، وغيرها تتعلق بالواقف، ومنها ما يتعلق بالموقوف، وكذلك شروط تتعلق بالموقوف عليه، كما يتنوع الوقف ويتعدد بناءً على تفريعات وتقسيمات أخرى ذكرتها في البحث، وتنقسم شروط الوقف إلى شروط صحة، وشروط نفاذ، ويعنى بشروط الصحة ما يتوقف عليه انعقاد الوقف من الاعتبارات، بعد وجود أركانه المتقدمة، ويعنى بشروط النفاذ ما يتوقف عليه اعتبار الوقف -بعد تحقق صحته.
ومما جاء في الخلاصة أن الفقهاء يذكرون الوقف المنقطع ويقصدون به: الوقف الذي انقطعت الجهة التي وقف عليها، وله أسباب ثلاثة لانقطاعه: فناء الموقوف له أو فوات صفة الموقوف عليه، وموت الناظر أو فقدان أهليته أو إهماله، وفناء العين أو تعطلها، كما يذكر الفقهاء الوقف المطلق ويعنون به: الوقف الخالي من الشروط، ولم يحدد له ربه مصرفًا.
وقال الباحث: اختلف الفقهاء في حكم الوقف المطلق بين مجيز له وممن قال به: (أبو يوسف ومحمد وهلال الرأي من الحنفية، وهو قول المالكية، ومقابل الأظهر عند الشافعية، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة) ومبطل له وذهب إليه بعض الحنفية وهو الأظهر عند الشافعية، ذاكراً ومستدلاً لكل قولٍ من هذه الأقوال، والراجح - والله أعلم - صحة الوقف المطلق لأسباب ذكرتها في البحث، كما اختلف الفقهاء ممن قالوا بصحته فيما يصرف له، وتنوعت أقوالهم وأدلتهم فيه إلى أربعة أقوال، ولكل قول من أقوال الفقهاء أدلتهم التي أوردتها، واخترت الترجيح بالجمع بينها: بصرفها حسب قصد الواقف، وإلا في المصالح العامة، وإذا ذكر الوقف منقطع الابتداء فإنه يقصد به: الوقف على من لا يجوز الوقف عليه ثم على من يجوز الوقف عليه، مثاله: أن يقول الموقف: هذا وقف على المغنين ثم على المساكين، وإذا ذكر الوقف المنقطع الوسط فيقصد به: الوقف على من يجوز الوقف عليه ثم على من لا يجوز الوقف عليه ثم على من يجوز الوقف عليه، مثاله: أن يقول الموقف: هذا وقف على زيد ثم على المغنين ثم على المساكين، وإذا ذكر الوقف المنقطع الآخر فيقصد به: الوقف على جهة تنقرض.
وواصل القول: اختلف العلماء في مصرف الوقف منقطع الابتداء على أربعة أقوال، وذكرت أن الراجح في مصرفه أن يصرف إلى من بعد الجهة المنقطعة لسببين ذكرتهما في البحث، كما اختلف العلماء أيضاً في مصرف الوقف منقطع الوسط كما اختلفوا في مصرف الوقف منقطع الابتداء، وذكرت أن الراجح في مصرفه أن يصرف إلى من بعد الجهة المنقطعة، وذكرت أسباب الترجيح، كما اختلف العلماء في صحة ومصرف الوقف المنقطع الآخر، وتنوعت أقوالهم وأدلتهم، ففي حكمه وصحته اختلف الفقهاء إلى قولين: القول الأول يرى صحة الوقف منقطع الآخر، وهو قول جمهور العلماء (المالكية والشافعية والحنابلة)، القول الثاني يرى عدم صحة الوقف منقطع الآخر، وهو الأرجح عند الحنفية وقول في مذهب الشافعية، وذكرت أن الراجح هو صحة الوقف المنقطع الآخر مع التسبيب، وفي مصرفه اختلف العلماء القائلون بصحته إلى تسعة أقوال، وبيّنت أن الراجح في مصرفه هو أن يصرف للفقراء من أقارب الواقف، فإن لم يكن فعلى المصالح، مع التسبيب أيضًا.
ويضيف: يذكر العلماء الوقف منقطع الطرفين، ويقصدون به: الوقف على من لا يصح الوقف عليه ثم على من يصح الوقف عليه ثم على من لا يصح، ومثّلوا له بقول: هذا وقف على المغنين ثم على ولدي زيد ثم على كتب البدع، واختلفوا في حكمه بين من يرى صحته وهم المالكية ووجه في مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة، وبين من يرى عدم صحته وهو مذهب الحنفية ومذهب الشافعية وقول عند الحنابلة، وأوردت لكل قول الأدلة التي استند عليها في حكمه، وبيّنت أن الراجح في حكمه هو صحة الوقف منقطع الطرفين،كما اختلف الفقهاء أيضاً في مصرفه، وذكرت أن الراجح في مصرفه أنه يصرف إلى من بعد الأول ثم إلى المصالح ويدخل فيهم الفقراء، مبينًا أسباب الترجيح.
وأشار أنس المشيقح إلى أنه قد تكون هناك أوقاف انتفت شروطها، واختلف العلماء في كيفية التحكم في المصرف إلى ثلاثة أقوال، وذكرت أن الراجح أن يقال: يستأنس بتصرف من تقدم، ثم يرجع إلى العادة الجارية، ثم إلى العرف الغالب، فإن لم يكن قسم بينهم بالسوية، مستأنساً ببعض النقول السابقة عن العلماء، كما يذكر العلماء توحيد الأوقاف، ويقصدون به: جمع أعيان الأوقاف أو مصاريفها في عين أو مصرف واحد، كأن يتعذر إفراد وقف مختلف المصرف بسبب قلة قيمته؛ فيُدمج مع الأوقاف الأخرى في عين واحدة؛ ليكون لكل وقف حصة مشاعة معلومة، مفرقين بين أن: يتحد الواقف والموقوف عليه، أو يتعدد الواقف ويتحد الموقوف عليه، أو يتعدد الواقف والموقوف عليه.
ويواصل الباحث قائلاً - في خلاصة الدراسة: ذكرت مسألة تغيير شرط الواقف، وذكرت فيها ما ذكره العلماء من وجوب العمل بشرط الواقف ذاكراً أدلتهم وما بنوا عليه، ثم ذكرت أن تغيير شرط الواقف ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: تغييره من أعلى إلى أدنى، كأن يقف الواقف على فقراء أقاربه فيُغيّر إلى فقراء الأجانب، وذكرت ما ذكره العلماء من أنه محرم بالاتفاق ولا يجوز، والقسم الثاني: تغييره من مساوٍ إلى مساوٍ، كأن يقف على فقراء بلد فيصرفه إلى فقراء بلد آخر، وهذا أيضاً محرم ولا يجوز بالاتفاق؛ لوجوب العمل بشرط الواقف للأدلة الدالة على ذلك، إلا إذا تغيّر موجب التحريم، فيتغيّر الحكم؛ إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والقسم الثالث: تغييره من أدنى إلى أعلى، مثل: أن يَقِفَهُ على العُبَّاد، فيصرفه إلى العلماء؛ إذ العلم عبادة متعدية، بخلاف مجرد التعبد بالصلاة أو الاعتكاف ونحو ذلك، وذكرت أن العلماء اختلفوا فيه على قولين: القول الأول جواز ذلك (تغيير شرط الواقف من أدنى إلى أعلى) وذكرت أدلتهم، والقول الثاني عدم جواز ذلك مع ذكر أدلتهم، وذكرت أن الراجح هو القول بالجواز مبيناً أسباب الترجيح، كما ذكرت أنه يمكن سدّ ذريعة التلاعب بالأوقاف، بأن يقيّد التغيير بما يلي: أن يكون التغيير بإذن القاضي، أو فتاوى العلماء، وظهور المصلحة التي يراد تغيير الشرط إليها.
ويضيف: ذكرت مسألة فاضل الوقف وما زاد عنه كزيته وحصره وثمنه ونحو ذلك، وذكرت أن العلماء اختلفوا في مصرفه على خمسة أقوال، فمنهم من قال بصرفه في مثله دون الصدقة به وجواز صرفه في سائر المصالح، ومنهم من قال إن فاضل الوقف يصرف في جنس ما وقف فيه، وقول ثالث ذكر أن فاضل الوقف يصرف في مثله والصدقة به على المساكين، وقول رابع يقول إنه يجب حفظ فاضل الوقف حتى يحتاج إليه فيما وقف فيه، أما القول الخامس فقد رأى أن فاضل الوقف يرجع إلى ملك الواقف، وذكرت أدلة كل قول والردود فيما بين أقوال العلماء -رحمهم الله-، وذكرت أن الراجح هو القول بجواز صرف فاضل الوقف في مثله دون الصدقة به وجواز صرفه في سائر المصالح، وذكرت أدلة وأسباب الترجيح، وأنه يجب أن يراعى شرط ومقصود الواقف ما أمكن ما دام مشروعاً، وأوردت مسألة فاضل ريع الوقف إذا كان على معيّن، وبينت أن الحنابلة ذكروا أنه لا يكون ريع الوقف على معيّن فاضلاً إلا إذا كان استحقاقه مقدرًا، كأن يقول الواقف: يعطى من ريعه كل شهر مائة، وريعه أكثر من ذلك، وذكرت الخلاف بين الحنابلة بين من يقول بوجوب إرصاد فاضل الوقف، وبين من يقول بوجوب صرف فاضل الوقف للمستحق إذا علم أن الريع يفضل دائماً، وذكرت بعض النقول والفتاوى لهذه المسألة، ويذكر الفقهاء نقل الوقف واستبداله ويعنون به: قيام ناظر الوقف ببيع الوقف القائم ليشتري له بدلاً ليكون وقفًا بدلاً من السابق، سواءٌ تم ذلك بالبيع أم بالمبادلة أم بنحو ذلك، وذكرت أن استبدال الوقف أحد الموضوعات التي أثارت بعض المشكلات بسبب المنافع والمفاسد التي تترتب عليه؛ الأمر الذي دفع الفقهاء أن ينظروا إليه بنظرات متفاوتة، بين مؤيدٍ له ومدافع عنه مع اشتراطهم عدة شروط فيه، وبين مانعٍ له منعاً باتاً إلا في حالات نادرة.
ويستطرد قائلاً: اختلف الفقهاء في حكم استبدال الوقف، ونستطيع القول: إن اختلافهم انحصر بين المنع ويمثله المالكية والشافعية، وبين الجواز ويمثله الحنفية والحنابلة، والراجح - والله أعلم - هو القول بالجواز؛ لقوة ما عللوا به من ضمان استمرار الوقف، واستمرار منافعه فيما خصصت له، وذكرت مسألة ملكية الناظر لاستبدال الوقف إذا لم يكن هنالك مصلحة راجحة، ويعنون به ألا يكون في استبدال الوقف بغيره «فائدة ظاهرة» أكثر من فائدة إبقائه، بل لا يكون في الاستبدال فائدة، أو يكون فيه فائدة يسيرة، وذكرت اتفاق المذاهب الأربعة على عدم ملكية الناظر لاستبدال الوقف إذا لم تتعطل منافعه ولم يكن هناك مصلحة راجحة في استبداله، كما ذكرت مسألة استبدال الناظر للوقف إذا كان هنالك مصلحة راجحة بحيث يكون بدله خيرٌ منه للواقف والموقوف عليه، كأن تقل منافعه ويكون غيره أنفع منه وأكثر درّاً على أهل الوقف، وذكرت منشأ الخلاف في المسألة، واختلافهم فيها على قولين، وأن الراجح -والله أعلم- هو القول بصواب الاستبدال إذا كانت هنالك مصلحة راجحة، وذكرت أسباب الترجيح في البحث.
ويبين أن الفقهاء اختلفوا في ملكية الناظر لاستبدال الوقف عند تعطل منافعه كانهدام الدار والأرض إذا خرجت وعادت مواتاً والمسجد إذا انتقل أهل البلد عنه وصار في موضع لا يصلى فيه، واختلفوا بين مانعٍ له أو مجيز منه وبيّن أو مفصّل فيه، وذكرت أن الراجح هو ملكية الناظر لاستبدال الوقف عند تعطل منافعه؛ لعدة أسباب ومرجّحاتٍ ذكرتها في البحث، واختلف الفقهاء في حكم تغيير هيئة الوقف عن صورته الأصلية كجعل الدار بستاناً أو العكس، أو جعل المدرسة مسجداً أو العكس، واختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال، وذكرت أن الراجح في المسألة هو القول بملكية الناظر لتغيير هيئة الوقف إذا كان في تغييره مصلحة، وذكرت أسباب الترجيح.
وأورد الباحث في - نهاية البحث - تطبيقات قضائية في الوقف المنقطع، بواقع ثلاثة تطبيقات: تطبيق قضائي في الوقف حال فناء الموقوف له أو فقدان أحد أسبابه، وتطبيق قضائي في الوقف حال موت الناظر أو فقدان أهليّته أو إهماله، وتطبيق قضائي في الوقف حال فناء العين أو تعطلها.