لقد استفحل وجود ظاهرة الهجرة الأجنبية في المملكة رغم السيطرة الشديدة التي تفرضها الدولة عليها فهي ظاهرة تتميز بسرعة تدفقها نظرا للازدهار الاقتصادي الذي خلق مقومات وعوامل جذب العمالة الدولية إلى هذا البلد. فالمملكة العربية السعودية تحتضن على أرضها ما يفوق 12 مليون أجنبي، وهذا عدد كبير مقارنة بعدد سكان المملكة الـ 24 مليون تقريبا فهذا الزحف الأجنبي أيا كانت جنسيته والذي ينتمي إلى عرقيات وثقافات وهويات وجنسيات مختلفة قد خلق العديد من القضايا والمسائل التي تمس المجتمع والدولة على حد سواء.
العمالة الأجنبية ما هي إلا شبكات اجتماعية مهاجرة لها هويتها وثقافاتها واتجاهاتها الخاصة بها حيث تمثل في حقيقتها نوعا من الوظائف الديناميكية النشطة والتي لها قوانين غير مكتوبة وأسرار وأساليب غير معلنة. ناهيك عن تحكمها في تيار واتجاه حركة الهجرة الدولية والنشاط الاقتصادي وتأثيرها على درجة كفاءة تقديم الخدمات الاجتماعية ولا تقتصر المشكلة إلى هذا الحد بل تمتد وبالخطورة ذاتها لتشمل جوانب أخرى لا تقل أهمية كالجانب الأمني والثقافي والسياسي والاجتماعي والتربوي والأسري كل ذلك يجعل التدخل لتوجيه مسار هذه الهجرة أمرا ضروريا بالقدر الذي يحد من تداعياتها ويحفظ في الوقت ذاته على البلاد أمنه في كافة المجالات. فهل يكفي لمواجهتها أن تمنع أو تقيد بإجراء معين ؟ وهذا لا يمكن اعتباره حلا جذريا للمشكلة لأنه لا يمسها في الصميم ولكن الصعوبة تكمن من أين نبدأ العلاج والمواجهة؟.... وهو ما يقودنا إلى ضرورة إعداد خطط قادرة على تحديد أبعاد المشكلة تحديدا دقيقا حتى يتيسر تكييفها وتقدير نتائجها وآثارها وأسبابها التي تتضافر مجتمعة لتجسيد هذه الظاهرة الخطرة ولن يتم ذلك إلا بالعطاء الفكري المخلص والإنتاج العلمي الدؤوب. فعلى الرغم من تناول العديد من الدراسات قضية الهجرة الدولية إلا أننا بحاجة إلى الدراسات والبحوث العلمية التي تهتم ببعض القضايا الدقيقة المعاصرة ذات الصلة بمعرفة نشاط وماهية الشبكات الاجتماعية المهاجرة الرسمية وغير الرسمية ودورها في عملية الهجرة الخارجية وما يتعلق بها من مسائل وقضايا متعددة الأبعاد وإخضاع ذلك لدراسة وتحليل عناصرها الرئيسة للوصول إلى حلول متسقة مع هذه العناصر من قبل المهتمين والباحثين في مجال علم اجتماع الهجرة ، نظرا للحداثة النسبية لهذا الموضوع ولحاجته لمزيد من الدراسات والبحوث الشاملة ، والتي تقود إلى كشف الغموض المتصل به وفهم واسع وشامل لأنظمة الهجرة الدولية وردود أفعالها الخطرة والسلوكيات والتحديات العمالية المعاصرة في ظل كوكبة العولمة الرأسمالية والتنبؤ بشكل أدق بما يتعلق بموضوع الهجرة العالمية, وذلك بهدف إثراء الجانب المعرفي والعلمي بمجال الشبكات الاجتماعية المهاجرة وما لها من دور فعال في جذب العمالة وكونها قناة للمعلومات التأسيسية لطموحاتهم المستقبلية وتحكمهم بالمناشط الاقتصادية ، والتي يمكن أن تضيف لصانعي سياسات الهجرة الدولية بعضا من الرؤى اللازمة تجاه العمالةلأجنبية في المملكة كما انه لابد أن تتضافر الجهود وتتوافر آلية وطنية للتنسيق والتكامل بين الجهات المختصة والأجهزة المعنية الأخرى بالمملكة. ولا يفوتني في هذه المناسبة أن أشير إلى أن اعتماد المواد الدراسية في جامعات المملكة المرتبطة بعلم اجتماع الهجرة ونظرياته والتي تعنى بمواضيع وقضايا الهجرة الدولية الصرفة لا تزال لا تتلاءم وحجم ظاهره الهجرة العالمية التي تشهدها المملكة. الظاهرة تحتاج إلى المزيد من الاهتمام بها وبقضاياها في ضوء اعتبارات أمنية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ودينية باعتبارها ظاهرة لها انعكاساتها السلبية وما تحمله في ثناياها من احتمالات تهديد على الأمن الاجتماعي بكل معانيه وذلك من خلال تكثيف تلك المقررات الدراسية المهتمة بذلك سواء كان ذلك في مرحلة البكالوريوس أو في برنامج الدراسات العليا كيف لا والهجرة إلى المملكة أصبحت حلما يراود الكثير بل باتت مقصدا لهجرة الملايين ومن مختلف قارات العالم وأصبح العمل والإقامة فيها شبه دائم بعد أن أصبحت العودة هذيان يردده المهاجر حتى تحولت في ذهنه إلى أسطورة وما نتج عن هذه الهجرة ماسي اقتصادية واجتماعية وأمنية وثقافية وسياسية وأخلاقية دفع ثمنها المجتمع. أيضا الدارسين والباحثين في مجال الهجرة الدولية وبالأخص في علم اجتماع الهجرة عليهم مسؤولية تجاه ذلك من خلال تسليط الضوء على بعض القضايا التي طفت على السطح في الآونة الأخيرة والتي لم تحظ بعد بالاهتمام وما تزال تتطلب جهودا متواصلة تتميز بالتحليل والإبداع وقادرة على كشف الأبعاد والمتغيرات الظاهرة والمستترة لفهم سلوك واتجاهات هذا المجتمع المهاجر المتعدد الثقافات والانتماءات والعرقيات والمذاهب وبالذات في هذا العصر عصر العولمة الذي يتميز بتحركات المهاجرين المعقدة والمكثفة وما أفرزته من هويات وانتماءات وشبكات ذات طابع خاص في علاقاتها الاجتماعية داخل حدود البلد المستقبل للمهاجرين. إن المملكة العربية السعودية بحاجة إلى المزيد من المؤسسات والمراكز العلمية المتخصصة في دراسات علم اجتماع الهجرة يعمل على دعم و تشجيع ونشر الدراسات العلمية والبحوث وعقد الورش والندوات والمؤتمرات التي تركز على تطوير الأساليب والنظريات والمفاهيم المعاصرة وتكون قادرة على تفسير اتجاهات الهجرة الدولية المعاصرة من اجل إعادة مسار دراسة الهجرة الدولية في ظل صحوة الضمير العالمي الذي يحتم التركيز على المنظورات اأخرى التي أصبحت جزء لا يتجزأ من التحولات والمتغيرات العالمية السريعة كعملية معقدة في نظام واتجاه الهجرة العالمية من اجل فهم الديناميكية الحالية للهجرة والتنبؤ لتطوراتها المستقبلية واستيعاب الطرق والأساليب المتبناة من قبل المهاجرين كشبكات مهاجرة تتحرك ضمن قوانين غير مكتوبة .
إن عدم فهم ذلك يعني عدم فهم خفايا وعواقب الهجرة الأجنبية أي كانت جنسيتها على نقيض الدراسات التقليدية التي يظهر عليها القدرة المحدودة في تفسير ديناميكية الهجرة عند طرح أهدافها وفرضياتها من خلال المقاربات البسيطة التي تدور حول جزئيات محددة تخص المهاجر نفسه كالاستقرار وصنع القرار والاندماج والأسباب...الخ. إن إدراك وتحليل قضايا الهجرة كظاهرة اجتماعية تتطلب تفسيرا علميا في ضوء التفسيرات النظرية المفسرة للهجرة كما يقدمها التراث العلمي في علم اجتماع الهجرة ،فلا شك إن تفسير ظاهرة الهجرة تنازع عدة اتجاهات والذي يظهر غلبة تخصص المنظرين والمفسرين على اتجاههم التفسيري، فالمتخصص في الاقتصاد يقدم تفسيرا اقتصاديا والمتخصص في الجغرافيا يقدم تفسيرا لظاهرة الهجرة تساير خبراته الأكاديمية وكما هو الحال في القانون ،أما المتخصص في علم الاجتماع وبالتحديد في علم اجتماع الهجرة فانه يقدم تفسيرات نظرية ترتبط بالجماعة والمجتمع.
إذن الهجرة العالمية تشكل موضوع بحث ودراسة في عدة تخصصات وفروع كل يراها وفقا لمعيار مرجعيته المعرفية وهذا لا يمنع الاستفادة من المقاربات المتعددة من تلك الاختصاصات. فعلى الرغم من وجود بعض المراكز أو الكراسي التي تهتم بالدراسات السكانية إلا انه من الأهمية بمكان إنشاء مركز أو كرسي دراسات الهجرة العالمية (سمّه ما شئت) مستقل بذاته متخصص بقضايا الهجرة الدولية ولا سيما في بلد يعيش على أرضه أكثر من 12 مليون أجنبي كالمملكة العربية السعودية التي تعد من الدول ذات الحركة الاقتصادية المزدهرة والجاذبة للملايين من العمالة والمقيمين.
الجدير بالذكر إن دولا لا يعد اقتصادها جاذب للعمالة الدولية، ومع ذلك أنشأت إدارات وحتى وزارات تعنى بقضايا ومشكلات الهجرة الدولية. وبالتالي يتحتم أن يرتكز هذا الكرسي أو هذا المركز على مشروع خطة إستراتيجية فاعلة وواضحة الأهداف يشترك في إعدادها نخبة من المفكرين والباحثين وأساتذة الجامعة وغيرهم من المهتمين وذوي العلاقة بشؤون الهجرة الخارجية للاستفادة من مرئياتهم وخبراتهم في هذا المجال. إن مثل هذا المركز الحيوي سيلقي بظلاله على القضايا التي تمس مصالح وامن الوطن والمواطن والتركيز على أهمية دراسات الهجرة الدولية للارتباط الوثيق بين القضايا المجتمعية من جهة والتخطيط والتنمية من جهة أخرى والقيام بدراسات الهجرة الدولية ودعم البحوث العلمية ونقل المعارف والعلوم الحديثة في مجال الهجرة الدولية وتكييفها بما يتلائم والظروف الاجتماعية والاقتصادية بالمملكة والإسهام في نشر الوعي بأهمية قضايا الهجرة الدولية المختلفة وإقامة المنتديات والفعاليات وعقد الندوات والمؤتمرات العلمية وتشجيع التأليف والترجمة ونشر البحوث العلمية بجانب دعم البحوث العلمية والدراسات في مجال الهجرة وقضايا المجتمع التنموية وتقديم بعض المقترحات التي تسهم في الحد من تدفق وتكدس العمالة الأجنبية في المملكة وتعمل على تبصيرهم وتوعيتهم بإخطار العمالة الأجنبية التي تحيط بهم إلى غير ذلك من اجل رفع نوعية الحياة في المجتمع السعودي من خلال إنشاء إستراتيجية التشغيل متوسطة وبعيدة المدى تسعى في المقام الأول إلى جعل المواطنين يهيمنون على مقدرات وطنهم، وأن يكون مستقبل ومصلحة وطنهم بأيديهم خاصة بعد التقدم العلمي بكل مراحله ومستوياته وتخصصاته فلا تنمية حقيقية يمكن أن تقوم في أي دولة أو مجتمع تكون مقدراته في يد غير أبنائه، فالأجنبي ولو حصل على جنسية البلد الذي هاجر إليه وعمل به عقود من الزمن فان انتمائه وعشقه سيبقى لبلده إلام الذي قدم منه إذن «فويل لأمة سلمت مستقبلها في يد الغرباء» فالأمم لا تبنى إلا بسواعد أبنائها. إن المخاطر قد تتفاقم إذا لم تتضافر الجهود بالبدء بخطوات جادة قابلة للتنفيذ للحد من منها ،فلابد من البرامج الفاعلة التي تعيد الثقة إلى المواطن الشباب وترسخ لديه القيم التي تقدر قيمة العمل باعتباره حقا وواجبا وحياة وشرف لكل مواطن سواء كان عمل يدويا أو مهنيا أو إداريا ولتحقيق تلك الإستراتيجية لابد أن تصاحبها آليات وسياسات تسعى إى تنفيذها على المستويين الحكومي والأهلي ومشاركة الشركات والمؤسسات الخاصة في اتخاذ هذه القرارات من منطلق الحرص والغيرة على المصلحة الوطنية لهذا البلد الغالي على قلب كل مواطن.