النزوع إلى التشدد الفقهي في التعامل مع الحلال والحرام، خاصة فيما ليس فيه أحكام نصية قاطعة مانعة، أو أنها قضاياً خلافية معروفة، سيعود عليك بنهايات عكسية، لن تستطيع أن تتحكم فيها ولا في مخرجاتها في النهاية، فقد يأخذ منهجك الاستدلالي المتشدد (نفسه) آخرون، فينفذون به ما يواكب غاياتهم وأهدافهم المغرضة، ويحورونه لمصلحتهم لا إلى مصلحتك؛ فتعود مخرجاته في نهاية المطاف على (البنية) التي كان هدفك بناءها واستمرارها واستقرارها فيُشكل خطراً عليها، وعندما ترفض هذه المخرجات، لأنها تنسف ما انتهيت إليه أنت من مخرجات نهائية، فأنت تُناقض نفسك، وتنقلب على منهجك الاستدلالي.
لذلك قال الإمام الشافعي مؤسس (علم أصول الفقه) عن آرائه الفقهية عبارة دقيقة ابتعد فيها بذكاء عن القطعية، وسلك مسلك الاحتمال؛ وكأنه يعطي لنفسه الفرصة كي يعود عن بعض آرائه متى ما اقتضت ذلك ظروف الواقع ومقتضيات المصالح والظروف المتغيرة ،كما فعل - مثلاً - حينما رحل من العراق إلى مصر. يقول رحمه الله: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)؛ أي أنه لم يعتبر آراءه دائماً قطعية يقينية، وإنما قد تكون أيضاً احتمالية ظنية، وهذا شكل من أشكال التسامح وتقبل الاختلاف، وهو - بصراحة - ما يفتقر إليه اليوم كثير من فقهائنا المتشددين؛ فآراؤهم عندما يطرحونها، يطرحونها على أنها هي الصواب المطلق، وآراء من اختلف معهم هي الخطأ المطلق؛ ناهيك عن أن بعض من تشوبه منهم مسحة (حركية سياسية) لا يتورعون عن أن ينبزوك بالكفر والضلال بمجرد أن تختلف معهم، وإذا خافوا من التكفير وتبعاته، فبالعلمانية التي يجهلونها ويجهلون بواعثها ومجتمعاتها التي نشأت فيها جهلاً مُطبقاً.
والتشدد الفقهي قد يكون صالحاً لزمن معين، ولأسباب موضوعية، وربما قد يكون هذا التشدد مبرراً أيضاً، لكن من يقرأ تاريخ المجتمعات، يجد أنها لا يمكن أن تتعايش مع التشدد بشكل دائم، فقد تضطر إلى تقبله في فترات معينة ولمقتضيات معينة، إلا أنها ستنزع قطعاً في النهاية نحو التسامح واللين والتيسير، وتنبذ التشدد والغلظة والبعد عن التسامح ؛ وسوف تنتصر هذه النزعة حتماً في النهاية، شاء من شاء وأبى من أبى.
وكل ما صغر العالم، وسَهُلَت سُبل التواصل بين أجزائه التي كانت في الماضي متباعدة، يصبح التسامح ضرورة حتمية وليس خيار لك أن تقبله أو ترفضه؛ وقد أشار -جل وعلا- في القرآن الكريم إلى أن اختلاف الناس وتعدد آرائهم ومشاربهم وتوجهاتهم (جُبلة بشرية) من خصائص البشر، يقول تعالى: {ولو شاء ربّك لجعل الناس أُمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين}؛ لذلك يمكن القول إن التعامل الموضوعي مع هذا الاختلاف أو الجُبلة البشرية، يقتضي التسامح لا إلغاء الآخرين، والتعايش معهم رغم الاختلاف وليس الاقتتال والتطاحن معهم، وفرض ما تراه أنت حقاً وبالقوة عليهم كما يفعل المتزمتون عندما تسنح لهم الفرص لفرض تزمتهم؛ ولك أن تعود إلى ما تمارسه (داعش) مثلاً من فهم معوج أو راديكالي لتعاليم الإسلام، وكيف أن التشدد يُفجر المجتمعات وينسف استقرارها، لتدرك قيمة التسامح وخطورة غيابه أو تغييبه بين بني البشر ليعيشوا بسلام وأمن وطمأنينة.
وقد شجع الرسول صلى الله عليه وسلم على التسامح والرفق واللين وحسن التعامل في مواضع كثيرة، يقول مثلاً في الحديث الصحيح (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه) ويقول: مخاطباً أم المؤمنين عائشة: (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه ). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول عائشة رضي الله عنها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه). وهذا لب التسامح في الإسلام.؛ فالأولوية في الإسلام لثقافة التيسير والتسامح أما التشدد فاستثناء له ظروفه وبواعثه الموضوعية.
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة، أن البعض عندما يتعمدون التشدد والبعد عن التيسير والمواكبة ومجاراة الضرورات، ويتخذونه من التشدد منهجاً لهم لا يحيدون عنه في التعامل مع المتغيرات والنوازل، حتى وإن كان في مسائل جانبية، فإنها ستنتهي حتماً إلى أن تتفاقم لتمس مسائل كبيرة ومصيرية، فتصل بنا إلى الإرهاب، أي إلى (القاعدة)، ومن ثم إلى الأسوأ (داعش)؛ هذا ما يقوله الواقع الذي نعايشه وليس أنا أيها السادة.
إلى اللقاء.