قادني إليه الحنينُ لذكريات سنين، فقصدته يحدوني الشوق لرؤيته، وتذكّر ماض قريب عشت فيه مع أهلي وإخوتي، فلما وصلت إليه وجدته يشكو الوحدة والهجران، فلا سكان ولا جيران، فتحت بابه ودلفت إلى داخله، فتمثلتْ أمامي صور والديَّ وإخوتي وأخواتي وهم يملؤون كل متر فيه حركة ودبيباً، وهيبة وضجيجاً، وكأني أسمع صوت والدي يحثنا على الصلاة بعد سماع الأذان: صلّوا. صلّوا لا تفوتكم صلاة الجماعة. وقادتني رائحة بقايا المسك والحناء إلى غرفة أمي، فوقفت ببابها واجماً، وسرحت بخيالي هائماً.
وأكملت المسير إلى صحن البيت فانهالت على مخيلتي أحلى الذكريات، لأجمل الأمسيات، فقد كنا نتناول فيه الغداء والعشاء، ونشرب القهوة والشاي، وقفت طويلاً بباب المجلس (غرفة استقبال الضيوف) متأملاً، فما أجمل الزخارف والنقوش التي تزين جدرانه التي زادها تعاقب الليالي والأيام عليها قوة وصلابة. وصعدت الدرج إلى الدور الأول من البيت حيث غرفات النوم والراحة، لقد صارت أثراً بعد عين، وبدأت أسأل نفسي: أين؟ وأين؟، فلما لم يجبني أحدٌ، نزلت مسرعاً!
غادرنا ذلك المنزل الطيني الجميل قبل عقدين ونيفّ من الزمن، غادرناه إلى مساكن وفلل، فاستوطنته من بعدنا العصافير والقطط (في مصادفة غريبة) فالعصافير اتخذت من فرع نخلته الوحيدة وكَناتٍ تبني بها أعشاشها، وراحت تشقشق وتزقزق وتتزاوج ثم تبيض بيضاً صغيراً، وأما القطط فقد اتخذت من دهاليزه ومخابئه ملاذاً آمناً تعيش فيه، وتنصب الأفخاخ لفرائسها المحببة إليها من (العصافير) فتنال منها ما شاء الله لها أن تنال.
أنهيت الزيارة وخرجت من البيت الطيني القديم وأقفلت بابه وقد عادت بي الذكريات إلى سنين ماضيات، ثم قفلت عائداً إلى بيتي وأنا أردد: لقد أمضيتُ في هذا المنزل طفولتي وشبابي، فيما والداي يحققان رغابي، ولم ولن أنسى أعوام الصفاء التي قضيتها ما بين إخوان هنا وصحاب.