قبل أكثر من عشر سنوات وتحديداً قبيل تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر كنت حينها مديراً لثانوية كبرى بمدينة الرياض. كنت في ذلك الوقت قريباً جداً من فكر الطلاب إذ لا يفصلني عن أكبرهم سنا سوى بضع سنوات ربما سبع أو ثماني لذلك كنت أستثمر لقاءاتي بهم وخاصة طلاب الصف الأول الثانوي لتوجيههم بطريقة منطقية كي يلتحقوا بالقسم العلمي بناء على الحاجة القائمة للأطباء والمهندسين ومعلمي المواد العلمية والتقنية ولأن لدينا وفرة في التخصصات الشرعية والأدبية، هذا عدا أنني مع فئة محدودة من المعلمين كنا نحاول تأصيل مفهوم الوطنية وتقريبها لأذهان الطلاب وأن الوطن ليس كما يزعم البعض حفنة من التراب لا يستحق الحب وإنما الوطن بيتنا الكبير وعلى الجميع التكاتف لخدمته وحمايته.
تركي كان أحد أميز الطلاب في الصف الأول الثانوي وكنا حريصين على أن يكون في العام التالي في مقدمة طلاب الصف الثاني الثانوي العلمي. عندما كنت أناقشه في هذا الموضوع يؤكد بثقة أن الالتحاق بالقسم العلمي خياراً محسوماً في ذهنه. مع مطلع العام التالي وبعد أسبوع من بدايته فوجئت بالطالب تركي يدخل على الإدارة مطالباً بتحويله للقسم الشرعي. حاولت معرفة الأسباب دون جدوى. عاودت المحاولة لثنية فلم أفلح. اجتمعت مع المرشد وطلبنا حضور ولي أمر الطالب وحاولنا ثني الطالب لمصلحته إلا أنه أصر. انفردت بالطالب ووعدته بتحقيق رغبته لكنني طلبت منه أن يكشف لي سر التحول فقال أن بعض معلمي التربية الاسلامية أقنعوه بالالتحاق بالقسم الشرعي لأن العلم الشرعي هو العلم المعتبر في الدين الاسلامي وما سواه من علوم الحياة ليست سوى تخصصات وأن طالب العلم يجب عليه أن يتجه للعلم الشرعي، وقال لي بالحرف الواحد أنه ليس الطالب الوحيد الذي بدلت قناعاته.
من حادثة الطالب تركي بدأت أتابع ما يجري بحرص أكثر فوجدت للأسف عمليات مكثفة لغسيل الأدمغة وإعادة برمجتها مرة أخرى من خلال بعض الجماعات الذي يشرف عليها معلمون من تخصصات مختلفة. طلبت مرة من أحد المشرفين مرافقتهم في الرحلة فأفادني بأنه لا حاجة لمرافقتي لهم، وأذكر حينها أنه حاول التملص بشتى الطرق وكأن لدى أولئك القوم أجندات محددة لا يريدوننا أن نطلع عليها. في ذلك الوقت كان بعض المعلمين يلقون نصائح وعظية بعد صلوات الظهر كان التركيز فيها على المفهوم الواسع للوطن الإسلامي، ودور الطالب تجاه إخوانه المسلمين والتوجه للمناطق الملتهبة للمشاركة في الجهاد.
غسيل الأدمغة وبرمجتها إذن ليست وليدة اليوم وإنما من سنوات. يهيئون داخليا ثم يصدرون للخارج ليتولى زعمائهم تحويلهم لحراب مسمومة تطعن فيها أوطانهم. تذكرت شيئا مما كان يجري لطلابنا وأنا أشاهد مقطعا لمن باعوا وطنهم وهم يمزقون جوازاتهم وبطاقاتهم ويدوسونها بأقدامهم، ناهيكم عمن يربطون الأحزمة الناسفة على أجسادهم يقربون أنفسهم لنار جهنم. وآخرها ذلك العمل الجبان في شرورة وقتل رجال الأمن الشرفاء الذين يحرسون حدود الوطن.
المقبوض عليهم من الإرهابيين تتم مناصحتهم وهي فرصة تمنحها الدولة لأشخاص غسلت أدمغتهم وبرمجت عقولهم لدرجة أن أصبح تحويلهم لجادة الصواب عملاً صعباً ما يستدعي أن يكون المناصحون على درجة عالية من التمكن وهو ما يدعوني للمطالبة بأبعاد بعض من ثبت عدم جدوى عملهم في لجنة المناصحة فالمهمة عسيرة لا يقوم بها أي أحد.