دعا الدكتور عبدالله بن محمد الجارالله عضو اللجنة الاستشارية لكرسي الإقراء بجامعة الملك سعود والأستاذ المتعاون بقسم القراءات بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورئيس مجلس إدارة المركز الخيري للقرآن وعلومه بالمدينة النبوية عموم المسلمين إلى زيادة الأعمال الصالحة في شهر رمضان المبارك، واغتنام هذا الموسم العظيم في فعل الخيرات، وزيادة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالصلاة والذكر والدعاء، وقال فضيلته في حديث له عن استقبال شهر رمضان المبارك، وأحوال الصالحين من السلف والخلف مع القرآن في تعاهد القرآن وتلاوته والعناية به - هذا شهر رمضان قد حل في ساحتنا، فأهلاً برمضان شهر المنح والهبات والمكرمات من رب الأرض والسماوات،
فكم لله سبحانه وتعالى فيه من مغفرة للذنوب، ورفعة للدرجات، ومنح لعباده المؤمنين، وعتق من النيران وحجاب عنها، وعفو عن المسيئين، وعلو للمحسنين، ومضاعفة لأجورهم، وقبول توبة التائبين، واستغفار المستغفرين، وتحقيق رجاء الراجين، وتوبةِ التائبين، وتأمين الخائفين، وبلوغ أماني الطائعين.
وأضاف يقول: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهَيِّئ الصحابة رضوان الله عليهم لاستقبال رمضان والاحتفال به بالعبادة والطاعة، فعن أنس بن مالكٍ، قال: دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ)، رواه ابن ماجة، وصححه المنذري والألباني، وهكذا تتشوَّف نفوس الصحابة رضوان الله عليهم والصالحين من سلف الأمة لهذا الشهر الكريم ذي الثواب العظيم والأجر الجزيل، وإذا ذكر رمضان ذكرت سير الصالحين في استغلال أيامه وساعاته ودقائقه وثوانيه في المسابقة في الطاعات والخيرات؛ لتكون نبراساً لنا وشاحذاً لهممنا عسى أن نتأسى بهم وسيرهم ومسيرهم. أما سير الصالحين من السلف والخلف في القراءة والختم وتعاهد القرآن ومراجعته فإنها تدل على همة عالية، ورغبة صادقة، ومحبة متناهية لهذا الكتاب العظيم، لا أدري كيف أصف أحوالهم، ولا أعلم كيف أذكر أخبارهم، إنها أخبار من نسج الخيال، كلا إنها ليست بخيال عند أهل القرآن الصادقين في محبتهم وعنايتهم بالقرآن، إنهم أدمنوا حب القرآن وتعاهده وتلاوته حتى صارت راحتهم بالقرآن، واطمأنانهم بكلام الرحمن، إن لهم مع الدنيا شأن عجيب، فلم تكن تعني لهم هذه الدنيا شيئاً، فإذا ما وقع شيء من تلك الدنيا في يد أحد من أولئك النخب الطاهرة فإنهم يصبحون في ضيق شديد، لا يدرون ما يفعلون، فلا تهدأ نفوسهم حتى يتخلصون منها، إنهم قوم طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا، وعلموا أن هذه الدنيا ليست لحي وطناً، كانوا دائماً ما يتمثلون الحديث الشريف: (من شغله القرآن عن ذكري أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وإليك بعض النماذج المشرفة والسير العطرة لأولئك السادة المخلصين وعباد الله الصادقين، فهذا سيد المرسلين وإمامهم، نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يدارس جبريل القرآن، قال ابن عثيمين -رحمه الله-: (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله مع جبريل من أجل تعاهد القرآن وحفظ القرآن).
واستشهد الدكتور عبدالله الجارالله في هذا الشأن بما قاله الإمام الصفاقسي في غيث النفع في وصف الصالحين وعلاقتهم مع القرآن: (كان الصالحون لا يفترون عن تلاوته ليلاً ونهاراً حضراً وسفراً صحة وسقماً، ولهم عادات مختلفات في قدر ما يختمون فيه فكان بعضهم يختم في شهرين وبعضهم في شهر، وبعضهم في عشر، وبعضهم في ثمان وبعضهم في سبع، وهم الأكثرون وبعضهم في ست، وبعضهم في خمس، وبعضهم في أربع، وبعضهم في ثلاث، وبعضهم في اثنين، وبعضهم في يوم وليلة، ومنهم عثمان بن عفان وتميم الداري - رضي الله عنهما- وسعيد بن جبير ومجاهد والشافعي، وبعضهم في كل يوم وليلة ختمتين وهكذا كان يفعل البخاري في شهر رمضان فكان يصلي بأصحابه كل ليلة إلى أن يختم، ويقرأ في النهار ختمة يختمها عند الإفطار، ومنهم من كان يختم ثلاثاً، ومنهم من كان يختم أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار).
وخصص الدكتور الجارالله الجانب الأكبر من حديثه في عرض أمثله لما كان عليه السلف الصالح في رمضان فقال:
1- لما حضرت الوفاة أبا بكر شعبة - أحد رواة عاصم - بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
2- وأما مالك بن دينار أبو يحيى البصري، فقد كان من أحفظ الناس للقرآن، وكان يقرأ كل يوم جزءًا من القرآن حتى يختم، فإن أسقط حرفًا قال: بذنب مني، وما الله بظلام للعبيد.
3- وأما الحسن بن صالح الكوفي، كان يختم القرآن في بيتهم كل ليلة: أمهم ثلث، وابنها حسن ثلث، وابنها علي ثلث، فماتت أمهما فكانا يختمان كل ليلة، ثم مات علي فكان حسن يختم كل ليلة.
4- وهذا محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة.
5- وكان أبو حنيفة يخْتم كل لَيْلَة عِنْد طُلُوع الْفجْر الأول.
6- وَكَانَ جعفر بن الحسن المقرىء الدرزيجاني: مداوماً للقيام والتهجد بالليل، وله ختمات كثيرة يختم كل ختمة منها فِي ركعة.
7- وكان علي بن محمد بن علي أبو منصور بن الأنباري: كثير الصلاة والتلاوة، يختم كل ليلة ختمة.
8- وكان عمر بن محمد بن مسرور العسّال يختم كل جمعة، ولم يُرَ إلا في اشتغال يحاسب نفسه على ساعة تذهب في غير طاعة.
9- وكان أبو الحسن روزبه بن موسى بن روزبه يختم كل يوم ختمة، إلا أنه يقرأ رُبْعَهُ بالليل في الصلاة من قيام، فحين ضعف كان يصلي من قعود، فإذا بقي عليه قليل قام فقرأ وركع.
10- وقال النسفي: كان أبو بكر الخطيب له الدرس والفتوى، ومجلس النظر، والتوسط، ومع ذلك كان يختم كل يوم ختمة.
11- وهذا سليم بن عتر أبو سلمة التجيبي المصري قال عنه الإمام الدارقطني: وكان سليم بن عتر يقض وهو قائم، وكان رجلاً صالحاً، قال: وروي أنه كان يختم كل ليلة ثلاث ختمات.
12- وهذا عطاء بن السائب، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: عطاء بن السائب ثقة ثقة، رجل صالح، من سمع منه قديماً كان صحيحاً، وكان يختم كل ليلة.
13- وقال أبو داود الطيالسي: كان أبو حرة واصل بن عبد الرحمن، يختم كل ليلتين.
14- وعن أسد بن الفرات قال: كان ابن القاسم عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة، يختم كل يوم وليلة ختمتين.
15- وعن علي بن المديني: كان يحيى يختم كل ليلة، وقال ابن معين: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم كل ليلة.
16- وكان محمد بن أحمد بن علي بن محمد أبو عبد الله الأصبهاني، فقيهاً حنبلياً، أديباً، ذا زهد وعبادة، يختم كل يوم ختمة.
17- وكان أبو علي عبد الرحيم بن القاضي الأشرف أبي المجد علي ابن البيساني من ملوك مصر، قال العماد في ترجمته: صاحب القرآن، العديم الأقران.
18- وكان فَقِيْه المَغْرِب، أَبُو مَيْسرَة أَحْمَدُ بنُ نزَار القَيْرَوَانِيُّ المَالِكِيُّ، يختِمُ كُلَّ لَيْلَة فِي مَسْجِده.
19- وكان الشيخ أبو الحسن الاستراباذي مجتهداً في العبادة عمره كله، وكان يكتب عامة النهار، وهو يقرأ القرآن ظاهراً لا يمنعه أحد الأمرين عن الآخر رضي الله عنه، وكان إذا دخل عليه أحد، وأكثر اللغو يقول له أخرج، ولو كان من أعز الناس، وكان له الدرس، والفتوى، ومجلس النظر، والتوسط، ومع ذلك كان يختم كل يوم ختمة.
20- وكان الأسود بن يزيد أبو عمرو النخعي الكوفي من العباد الذين لا هم لهم إلا قراءة القرآن، فكان يختم القرآن كل ست ليال، وفي رمضان كان يختم كل ليلتين.
21- وكان حمزة لم يلقه أحد قط إلا وهو يقرأ، وكان -رحمه الله- يختم في كلّ شهر خمساً وعشرين ختمة، وكان إذا فرغ من إقراء القرآن صلى أربع ركعات، وكان يصلي بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وكان لا ينام الليل كلّه، وكان جيرانه يسمعونه يرتل القرآن ترتيلا.
22- وكان شيخ عموم المقارئ المصرية الشيخ عامر -رحمه الله - كثير صلاة الليل، كثير النافلة، كثير التلاوة، لا يكاد يختم حتى يبدأ بختمة أخرى، مع أنه قد جعل وقته كله للإقراء، حيث كان يقرئ في كل أحواله، طلب منه شيخ القراء بالمسجد النبوي الشيخ إبراهيم الأخضر أن يقرأ عليه القرآن، فقال والله لا أردك، ولكني لا أجد لك وقتاً إلا قبل الفجر بساعتين، وكان آخر ختمة ختمها قبل وفاته بساعات، حيث بدأ ختمة قبل وفاته في مدة ستة أيام، حدثني ابنه عن قصة وفاته.
23- وأما عالم الدنيا وشيخ القراءة والإقراء الشيخ عبد الفتاح بن عبدالغني القاضي فإن علاقته بالقرآن علاقة محبة عارمة وشوق عجيب، حتى قال أحد أشياخنا الكبار لا أعلم أحد يحسن استماع القرآن فيما نعلم إلا رجلين: الشيخ ابن باز والشيخ القاضي، كان الشيخ القاضي مدمناً لقراءة القرآن حتى إنه لا يُعْرَفُ ختمه من بدئه، وكانت هذه سيرته حتى وفاته، فإنه كان ليلة الوفاة مع أحد تلاميذه يقرأ عليه القرآن ثم ودعه، ثم أصيب بجلطة دخل بعدها في غيبوبة لم يغب عن الوعي فيها لكنه أيضاً لا يقدر على التعبير أو الكلام، كان إذا سمع الأذان أمسك ثوبه واستعد للوضوء مع أنه لا يقدر على المشي أو الكلام، جلس سبعة عشر يوماً يتمتم بكلام لا يعرف ما يقول، فلما أكمل اليوم السابع عشر سكت عن تمتمه ثم توفي بعدها، قال ابنه ومن حضره من المشايخ: فعلمنا يقيناً أنه كان يقرأ الختمة الأخيرة من القرآن.
24- وأما أعلم أهل الأرض في علم القراءات والتحريرات في وقته الشيخ إبراهيم شحاتة السمنودي فقد كان كثير القراءة والمراجعة حتى إنه أدمن ذلك فلا يقدر على ترك قراءة القرآن وسماعه مهما كانت حاله، ولذا فإنه لما عجز عن النطق والقراءة وفصاحة الحرف صار يسمعه من الإذاعة على مدار الوقت، حتى جاءته منيته وهو جالس يستمع للقرآن من الإذاعة بعد صلاة الفجر، وقصة وفاته كما حدثنا عنها ابنه.
25- وأما الشيخ الزاهد العابد أبو الحسن الكردي شيخ مقارئ زيد بن ثابت في دمشق، فذاك بقية السلف في سيرته مع القرآن قراءة وعملاً، فلقد لازمته خمس سنوات فرأيت منه مع القرآن أحوالاً عجيبة لا يقدر عليها إلا من كان على شاكلته ممن اصطفاهم الله لخدمة كتابه فقاموا بحق القرآن حق قيام، مع أنه كان يعاني أمراضاً وأوجاعاً كثيرة، حتى قال بعض تلاميذه والله إنا لا نعرف له معصية، وقصته مع ملتقى القراء مشهورة، وكنت أقرأ عليه مرة فرأيته يتألم من شدة المرض، فقلت له لعلي أترككم ترتاحون أيها الشيخ الكبير، فقال مقولته التي لازالت تطن في رأسي وتَمْثُلُ دائماً في فكري: قال رحمه الله: وهل كانت عافيتنا إلا بالقرآن، وهل كان شفاؤنا إلا بكلام الرحمن، وهكذا كان -رحمه الله- مخلصاً إلى وقت احتضاره ووفاته لم يبدل أو يتغير، فإنه جلس أسبوعاً كاملاً وهو في غيبوبة فإذا أفاق أخذ يردد آياتٍ من القرآن مئات المرات ثم يدخل في غيبوبته مرة أخرى، وكان إذا أفاق لا يكلم أحداً، إنما هو قراءة القرآن.
26- وكان الشيخ محمود الصادق قمحاوي العالم الكبير صاحب المؤلفات الكثيرة كالبرهان في علوم القرآن، وشرح طيبة النشر، كثير الصلاة والتعاهد للقرآن، وكان يراجع القرآن ويتعاهده في صلاة النوافل، توفاه الله بعد صلاة العشاء وهو قائم يصلي ويتنفل في المسجد النبوي الشريف.
27- وأما شيخ تونس وسيدها في القراءة والإقراء، الشيخ أبو عبد الله منير بن المظفر، فهو لا يقتصر على تعاهد حفظ القرآن ومراجعته، بل إنه يتعاهد حفظه وضبطه للقراءات العشر برواياتها العشرين، وكذا أبنائه وبناته، حتى صار القرآن لبيتهم كالهواء، وكالماء البارد على الظما.
28- وكان الشيخ العلامة محمد ابن عثيمين صاحب تلاوة وقراءة ومراجعة لكتاب الله تعالى، كان يختم القرآن في الشهر مرتين في غير رمضان، أما في رمضان فكان يختمه كل ثلاثة أيام. ما أسعدهم حين أرضوا ربهم فاشتغلوا بخدمة كتابه، وأفنوا أعمارهم في حفظ وتلاوة كلامه، إنهم والقرآن في واد والناس في أودية أخرى، ولذا فقد كانت سيرهم وخواتيمهم تدل على صدقهم في علاقتهم مع القرآن العظيم، فهل نتعظ من سيرهم ونتبع مسيرهم.