إن إدخال السرور على المؤمنين هبة يمن الله بها على من شاء من عباده، والمرء الذي يفرح لفرح أخيه، ويسعى جهده لكي يدخل السرور في قلبه دون أي مصلحة يرجوها منه رجلٌ عظيم النفس، فخيم الشأن؛ يأوي إلى إيمان صادق، وينزع إلى مروءة تامة، ويحمل بين جنبيه نفساً زكية، وعقلاً راجحاً.
وإن سبل إدخال السرور على المؤمنين كثيرة ومتعددة، ومن رامها فُتحت له أبوابها، وإن من تلك الأبواب تهنئة الناس بأفراحهم، ومشاركتهم أتراحهم، ومبادرتهم بالبشرى، وتبليغهم الثناء الصادق.
وقد يحسب أحدٌ أن هذه أمور فضلة، لا تستحق أن يسطر فيها البيان، ولا أن تعقد فيها الخناصر؛ ولعمري إن هذا ظن قاصر، ونظر غير ثاقب، فإن النفوس مجبولة على حب من يشاركها أفراحها وأتراحها، ويبادلها التهاني، ويبادرها بالبشرى، وهذا الأمر داخل في قوله تعالى: (وقولوا للناس حسناً) وقوله: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)، وقوله -صلى الله عليه وسلم - : (الكلمة الطيبة صدقة).
وبين يديك أيها القارئ الكريم موقفان شاهدان على أهمية تفعيل هذه الأمور:
الموقف الأول: الصحابي الجليل: كعب بن مالك - رضي الله عنه - أحد الثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، يذكر قصته حين كبر سنه، وكف بصره، فيذكر أحداث تخلفهم، وقصة توبة الله عليهم، فلا يُغْفِل ذكر معروف أسدي إليه، قد رسخ في ذاكرته، فلا يزال يترواه ويتملاه، ويصرح بأنه لا ينساه، فيا ترى ما هذا المعروف الذي فعل بكعب - رضي الله عنه - كل هذا؟
هل هو إنقاذ من معضلة مهلكة، أو هو إطعام في يوم ذي مسغبة، أو هو قضاء حاجة مستغلقة؟
كلا لم يكن شيئاً من ذلك!
لقد حكى هذا المعروف كعبٌ نفسُه، فذكر أن الناس جاءوا يبشرونه وصاحبيه بتوبة الله عليهم، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس يلقونه فوجاً فوجاً يهنئونه بالتوبة، حتى دخل المسجد. قال كعب:(فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس حوله الناس، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة).
فقط مجرد مبادرة طلحة - رضي الله عنه - بمصافحة كعب وتهنئته هي التي فعلت في قلب كعب ما فعلت.
إذن فلا تحقرن تهنئة تبذلها لأخيك، جراء أمر ناله، واحذر أن يدور بخلدك أن المهنئين كثير، فتتقاعس عن بذلها، فقد يكون ظنك غيرصحيح. ولا تحقرن حضور دعوة فرَح خصك أحد الناس بها؛ فإنه ما خصك إلا لمكانتك عنده.
الموقف الثاني: تسابق جرى بين أعظم رجلين عرفتهما البشرية بعد الأنبياء والمرسلين، أبي بكر وعمر - رضوان ربي عنهما أبد الآباد - فيا تُرى على أي شيء تسابقا؟
يحدث عمر الفاروق - رضي الله عنه - عن هذا السباق، فيقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزال يسمر في الأمر من أمر المسلمين عند أبي بكر - رضي الله عنه - وأنه سمر عنده ذات ليلة وأنا معه، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجنا نمشي معه، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءته، فلما أعيانا أن نعرف من الرجل؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد) ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - يقول له: (سل تعطه) فقال عمر: فقلت: فأدلجت إلى عبد الله بن مسعود لأبشره بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما ضربت الباب - أوقال: لما سمع صوتي - قال: ما جاء بك هذه الساعة؟ قلت: جئت لأبشرك بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: قد سبقك أبو بكر. قلت: إن يفعل فإنه سباق بالخيرات، ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليها أبو بكر.
فتأمل هذا التسابق العجيب من هذين الصحابيين العظيمين في تبشير هذا الصحابي، وكيف أنهما لم ينتظرا حتى يخرج النهار؛ بل هرعا مدلجين في الليل، كلٌ منهما لا يدري عن صاحبه، وإذا بعمر - رضي الله عنه - يفاجأ بأن أبا بكر سبقه بالبشرى، فهو السابق الذي لا يجارى، والفارس الذي لا يبارى، فرضي الله عنهما، ما أزكاهما، وأجمل فعالهما!
ولا عجب فهم أعيان الفضل، وهامة الشرف، وغرة المجد. وما كانا - رضي الله عنهما - ليبادرا بهذه البشرى إلا أنهما يعرفان جلالة أثرها، وعظيم وقعها في نفس من قيلت فيه.
وإن مما يحسن الإشارة إليه هنا أنه ليس المقصود أن يكون المرء متطلعاً إلى كل ثناء، مستشرفاً لكل مدحة، متهالكاً في حب التعظيم والأضواء، فهذا كله من الأمور المستهجنة عند العقلاء، المستقبحة عند الشرفاء، الجالبة لداء الرياء، وإنما المقصود بذلك أن يحمده الناس من غير تعرض لحمدهم، ولا تطلع لثنائهم، يدل على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث أبي ذر- رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال: (تلك عاجل بشرى المؤمن). وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد - كما في الآداب الشرعية 3/437: (جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر- يعني بن الحارث -، فذكروه فأثنى عليه بشر، وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه، ولولاه لهلكنا، قال عبدالله: ووجه أبي يتهلل، فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟ فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين، وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه «.
إن تهنئة الناس بأفراحهم، وتبشيرهم بها، وإشاعة الثناء الصادق بينهم، يوثق الحب، ويؤكد صدق الصلة، ويدفع سوء الظن، ويذهب رجز الشيطان.
فما أجمل ذلكم الرجل ينقل مشاعر الحب بين والديه وإخوانه وأقاربه. وأكرمْ بطالب العلم يشيع عبارات الود والتقدير بين شيوخه بعضهم مع بعض.
وما أجمل ذلك المعلم الذي ما إن وقف على تفوق طالب في نتيجته إلا وبادر إلى تبشيره وتهنئته.
وعلى النقيض من ذلك تجد من الناس من تلقى في نفوسهم دناءة، وفي قلوبهم مرض، ينظرون إلى الناس بطرْف سقيم، يفرحون لترحهم، ويشرقون بفرحهم، يفشون المعايب، ويسترون المحاسن، وكأن الأول عناهم حين قال:
إن يسمعوا سُبةً طاروا بها فرحاً
مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمٌ إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوءٍ عندهم أذِنوا
أو الآخرحين قال:
إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا
شراً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
وقد شبه العلامة ابن القيم هؤلاء تشبيهاً مستبشعاً فقال كما في المدارج1/403: (ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمَّه، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوىء، فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها، فجعلها فاكهته ونقله).
نعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء.
وخلاصة المقال أن الرجل الموفق هو من يبادر الفرص، ويستبق الخيرات، ويحرص على إشاعة السرور في المؤمنين، ومشاركتهم فيه، لا يحتقر منه نقيراً ولا قطميراً، لا يَشغله عنه أعباء، ولا يطلب عليه جزاء. اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.