مع ترقبي للمسلسل التلفزيوني الذي كان من المفترض أن يعرض ضمن المسلسلات الرمضانية لهذا العام (رجل العلم والإيمان) عن سيرة حياة المفكر والأديب الراحل د. مصطفى محمود (1921 - 2009) إلا أن أسباب تأجيل المسلسل، أو تجميده كما يقول القائمون عليه، أثلجت صدري وجعلتني أكثر تفاؤلاً بأن ثمة ما يستحق الترقب سيعرض على الشاشات في عام ما.. ذلك لأن الأسباب، كما يقول مؤلف العمل السيناريست وليد يوسف، تتمثل في كلمة واحدة (التمويل) والطريف أن التمويل هذا هو نفسه الذي أشيع عنه بأنه السبب في إيقاف البرنامج الشهير للدكتور مصطفى محمود (العلم والإيمان) في منتصف الثمانينات الميلادية،
بعد 400 حلقة لا تزال تؤثر في الأجيال التي تشاهد إعادات لها على شاشات بعض الفضائيات، أو حتى على المواقع الإلكترونية التي جعلت كل شيء في متناول الجميع.. بينما الحقيقة التي يعرفها المثقفون جيداً أن جهات سياسية ودينية واقتصادية متعددة ساهمت في إيقاف ذلك البرنامج رغم وفرة التمويل من محبي مصطفى محمود الذين كانوا على استعداد لدعمه.. ولكن كانت يد الإيقاف هي الطائلة!
في 18 يناير من هذا العام، تحدثتُ في مقالة عنوانها (الدراما والشخصيات المعاصرة: بعد الصدمة في محمود درويش كيف سيأتي مصطفى محمود..؟) عن أمور كثيرة لا أريد تكرار الحديث عنها الآن؛ ولكن سأضيف إليها فقط - بعد تجميد العمل في المسلسل لأسباب تتعلق بالتمويل المادي - أن الدكتور مصطفى محمود كان يكتب مقالاته ويؤلف كتبه وهو يجلس نصف متمدد على سرير مفرد يشبه أسرّة المستشفيات البدائية، وكان يظهر على الشاشة في برنامجه الشهير الذي كانت تتناقله القنوات الرسمية للدول العربية - آنذاك - بخلفية عادية ساكنة تخلو من أي مبهرات، وموسيقى ناي هادئة وناعمة من عزف محمود عفت، وكانت الحلقات تبدأ وتنتهي والدكتور جالس على مكتبه يتحدث ويعرض أفلاماً ويعلق عليها من مكانه دون أي حركة تتطلب أكثر من كاميرا واحدة؛ ولو أردنا تصوير ذلك فقط لما تكلف الأمر أي مبالغ مادية تستحق الذكر، لأن الأدوات التي كان يستخدمها الرجل في أبحاثه، من مرصاد فلكي وكتب وميكروسكوب وأفلام وثائقية وسواها كلها لا تزال موجودة عند ابنه أدهم وابنته أمل وهما متعاونان جداً مع فريق عمل المسلسل كما علمتُ. غير أن المسألة ليست كذلك، فالكون بكل اتساعه وأعماقه وفضاءاته كان هو المحرّض لمصطفى محمود، الذي عاصر الحرب العالمية الثانية والثورة المصرية الأولى ونشأة الشيوعية والإخوان وتحديات الطائفية والمذهبية والمؤامرات التي تستهدف الأديان وتستغلها في آن (!)، عاصر كل ذلك معاصرة الفاعل النشط المؤثر صاحب الرأي والكلمة الجريئة الحادة والصادمة في معظم الحالات، مستخدماً كل النقلات النوعية في وسائل الاتصال والإعلام من بداية ظهور المذياع إلى التلفاز.. ثم الأهم من كل ذلك، هو التحرّك.. التحرّك غير المعلن، فقد كان يقول عن نفسه إنه يشبه النواة التي لا بد لها من الانزواء في مخبأ حتى تنضج وتطرح ثمراً.. بينما كان يتحرّك في الخفاء بخطوات واسعة!
يقول السيناريست الشاب وليد يوسف، مؤلف المسلسل: (توقفنا لأسباب إنتاجية، رغم تحمّس منتج من القطاع الخاص له، ولكنه بحاجة لممولين يشاركون في تكاليف الإنتاج معه بعد أن وضعنا ميزانية مبدئية قابلة للزيادة قدرها 34 مليون جنيهاً (قرابة خمسة ملايين دولاراً) فالمسلسل يقدم بانوراما لتاريخ مصر في الفترة من 1921 إلى 2009 ويتطلب تصويره السفر إلى خمس دول، بطاقم هائل من الممثلين والتقنيين، لأننا نقدم السيرة الذاتية للعالم مصطفى محمود الذي كان موسوعة متحركة بالمعنى الحرفي للكلمة).
هنا أود التعليق أو التعقيب أو الاقتراح.. فسيرة مصطفى محمود جديرة بأن تكون بانوراما للطبيعة كلها والكون بكل متغيراته التي عاصرها وتأملها وساهم في تبريرها بشتى المجالات الفكرية. كما أنني أخشى على سيرة هذا الرجل أن تقيد في المسلسل بالجانب العلمي فقط، المتوازي مع الجانب الديني.. فإن كان هو أول من فكّر في تطابق العلم مع الإيمان في عصرنا الحديث، ومن أفكاره نشأت أفكار - أو مراكز - الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، التي شاعت مؤخراً حتى كادت أن تكون بعكس ما يراد لها.. إلا أن مصطفى محمود كان أديباً لا يستهان بأدبه أبداً.. فأدبه لم ينحصر فقط في القصص والمسرحيات التي ألّفها، بل هو السمة الغالبة على كل نتاجه الفكري، مكتوباً كان أو مصوّراً، ولولا الأسلوب الأدبي الذي كان المداخل والخواتم لكل كتبه (التسعين) وحلقات برنامجه (الأربعمئة) لما وصل إلى كل شرائح المجتمع العربي حتى صار أشهر شخصية فكرية في مصر والدول العربية كافة، وكانت كتبه أول كتب عربية يتم تزويرها للبيع في دول كثيرة لعقود طويلة.
لذا، فإنني أتمنى أن يأتي المسلسل - في قادم الأيام أو الأعوام - مكتملاً من كل النواحي، وأظن أنه سيحتاج لميزانية أكبر بكثير من المرصودة، لأنه - كما قلتُ - يجسد شخصية تشكّل بانوراما من التأملات الفكرية للكون كله في عصرنا الحديث، فحواها العلم والإيمان وطابعها الأدب والإبداع. وتلك حالة تبقى محفوظة كما هي، وكما كتب عنها، أفضل من أن تأتي على استعجال فتظهر ناقصة.. وكأنها شخصية عابرة!