تختلف مصطلحات السوق المالية الحديثة -التي تشكل شريان الدم للاقتصاد الحديث-، عن مصطلحات الوسائل المالية والاجتماعية التي كانت تُساعد في العمليات التبادلية في الاقتصاد القديم. فالودائع المربوطة بزمن (ومنها شهادات الودائع القابلة للتداول) والسندات والتمويلات، هي عمليات تحويل للنقد من وسيلة تبادل وتثمين إلى وسيلة استثمارية في شكل أوراق مالية. فالوديعة والسند وعقد التمويل، لا يثمن بها الأشياء ولا يُشترى بهما من الخباز والسوق فهي ليست بسيولة نقدية. فالوديعة المربوطة بزمن أو القابلة للتداول والتمويلات والسندات لها مواعيد استحقاق لتسييلها، ولكن يمكن أحيانا بيعها إذا احتيج للسيولة،كأي سلعة ويُشترى بثمنها ما يُشترى بالنقود. وهي أوراق مالية، والأوراق المالية كالسندات والأسهم تتعرض لمخاطر الإفلاس ونحوه. فالودائع والتمويلات والسندات مشاركة وليست قرضا بالمفهوم الشرعي. ومن الظلم والتحريف للنصوص الشرعية تنزيلها على غير منازلها لتشابه المُسمى مع اختلاف الحقيقة. فالشركات والمشاريع تقوم تمويليا على مؤسسين ومشاركين بالكامل ( وهم حملة الأسهم) ومشاركون محدودون ( وهم حملة السندات والممولون). والمشاركون المحدودون هم من يميزهم الغرب بمسمى الدائنين، وتطلق عليهم ما يُسمى بالصيرفة الإسلامية بحملة الصكوك، إذا دفع مُصدروها الأجور اللازمة لاكتساب هذا المسمى.
وكونه مشاركا محدودا أي أن ربحه محدود لا يزيد على المتفق عليه، (وهذا لا مانع فيه شرعا مطلقا). ولكن خسارته غير محدودة، اللهم أن خسارته تأتي في الأولوية الثانية بعد حملة الأسهم والمؤسسين. فلو خسر المشروع أو الشركة بالكامل، فإن حملة السندات والممولين يخسرون أموالهم بالكامل أيضا. والودائع كذلك، فلو خسر البنك بالكامل خسر المودعون أموالهم. وليس بصحيح بأنهم لا يخسرون عادة، فالخسارة بمئات المليارات سنويا. والربح على قدر المخاطرة. فهناك سندات وودائع وتمويلات قد تصل أرباحها إلى عشرين وثلاثين بالمئة بسبب ارتفاع مخاطرة الإفلاس والخسارة، وبطاقات الائتمان مثال قريب منتشر لها. وهناك ما أرباحها قد يصل إلى الصفر وأقل من الصفر أحيانا في بعض الفترات، كالسندات الحكومية الأمريكية واليابانية قصيرة الأجل. فالمستثمرون يشترونها في الأزمات المالية خوفا من إفلاس البنوك والشركات. والذي ساعد على اللبس الحاصل اليوم هو أن المجتمعات قد تركت نظام المقايضة بالسلع وخاصة السلعة بجنسها حتى أنكرت العقول هذا النوع من التبادل، رغم أن أحاديث ربا البيوع كلها تدور حول هذا النوع من المقايضة وهو مبادلة المال بجنسه.
وعلى كل حال فموضوعنا هو زكاة هذه الأنواع من الأوراق المالية. فهي أموال ولكنها ليست شكلا من أشكال النقود. فحكمها يدخل تحت النظر فيها أهي أموال قابلة للتنمية أم أنها أموال تُنمى بالفعل. فالودائع لزمن لا يحتفظ بها البنك بل يعيد تمويلها لمن ينميها. فالبنك يحسب حساباته على هذه الودائع بأن صاحبها لن يطلبها إلا في وقتها، فهو بذلك يجدول التمويلات. والتمويلات تذهب لمن يستخدمها في بناء وصناعة واستهلاك، فهي تُنمى وتدخل في الدورة التنموية وتؤدي دورها في الاقتصاد. كما أنها في حق المُودع أموال غير قابلة للتنمية، فقد انقطعت قابلية نمائها بمجرد تحويلها إلى أوراق مالية، ولا يستطيع استخدامها كنقود إلا ببيعها وتسييلها كأي سلعة. فلا زكاة في أصولها. أي أن الودائع والتمويلات والسندات لا تعتبر أموالا زكوية ولا تدخل الوعاء الزكوي، ولكن أرباحها تجب فيها الزكاة بمجرد اكتسابها. فهذه الأوراق المالية كمزرعة الروبيان والطماطم واللؤلؤ وكالمصانع ونحوها. أصولها أموال غير قابلة للنماء ونتاجها تجب فيه الزكاة بمجرد اكتسابه، ولكن جبايته أو إخراجه واجب موسع إلى عام.
فناتج هذه الأوراق، أي أرباحها، عبارة عن نقد، يمكن إعادة تنميته مرة أخرى وقد يستغرق إعادة تنميتها مرة أخرى لحظة واحدة أحيانا، ولكن بمجرد استحقاق هذه الأرباح فإن علة قابلية النماء توجب فيها الزكاة، على الواجب الموسع إلى عام. وهذا يُعطي ولي الأمر الحق في جباية زكاتها، إن رأى ذلك، تماما كما أن الحمل من الضأن يولد لحظة قدوم الجباة فيكتمل نصاب 120 من الغنم فيأخذون منه رأسين من الغنم وقد كان قبل لحظة لا يُجبى منه إلا شاة واحدة.
وهذه من حكم التشريع والإعجاز الفقهي التشريعي. فنسبة الزكاة كثيرا ما تكون أعلى من أرباح السندات والودائع لأجل وأحيانا أرباح التمويلات كذلك. ولو أمر الله بزكاتها لسمعنا وأطعنا، ولكن الإعجاز الفقهي في النصوص مع حكمة الله في مجموع اختلافها وتنوعها أظهرت لنا بالعلة المنضبطة -العازلة للأعراف والتقليد والأهواء- أن لا زكاة في أصولها دون نتاجها، كحال المستغلات وكمزارع الطماطم.
وسبحان من شَرّع فأحكم شرعه، فلو كانت الزكاة في أصولها لتعطلت السوق المالية كما هو حال المسلمين في تخلفهم الاقتصادي، بسبب قطع سبل الاستثمار على الضعفاء بتحريم أرباح هذه الأوراق المالية وبسبب جمود أموال الأغنياء في البنوك لعدم دفعها فوائد عليها، مما شل حركة تنقل الأموال في الاقتصاد وأثقل الاعتماد في لتمويل على الحكومات. ولو جاء التشريع بالزكاة لارتفعت كذلك أسعار الفوائد لتعويض الزكاة، وهذا له أثر تضاعفي متراكم على الاقتصاد قد يشله أو ينكسه أو يعطله فضلا على ارتفاع الأسعار والتضخم.
وهذه أحد المواضع التي تُظهر إعجاز التشريع في قابليته لكل زمان ومكان بما ينفع مصالح الناس. لكن الله المستعان على من عطل مصالح المسلمين تبعا لقول رجال شبهوا في النصوص، فأبدل الإعجاز التشريعي بالعجز التطبيقي ليسُده بعد ذلك بهوى شخصي أو حيلة مضحكة مبكية. فما أعظم اتباع النصوص الشرعية بالتأصيل لا بالتأويل والتشبيه، وصدق الله {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} وصدق سبحانه {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم}.