سيبقى الخلاف بين العلماء إلى يوم القيامة في الأمور الاجتهادية، وليس في الأمور التي اتضح فيها النص صحة ودلالة؛ فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة، وهكذا الأئمة من بعدهم، إلا أن خلافهم كان رحمة واسعة، واتفاقهم حجة قاطعة،
بعد أن بذلوا جهدهم في الوصول إليه، فأصابوا وأخطؤوا، ففاز بعضهم بأجرين، وبعضهم بأجر واحد، وكانوا متى ما ظهر لأحدهم خطؤه ومخالفته للحق رجع عنه، ووافق الصواب. وهذا المنحى يؤكده ابن القيم - رحمه الله - بأن: «وقوع الاختلاف بين الناس أمرٌ ضروري لا بد منه؛ لتفاوت إرادتهم وأفهامهم، وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض، وعداوتهم، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب؛ فكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً، والغاية المطلوبة واحدة، والطريق المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد، وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد، وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد، وهو النظر في أدلة القرآن والسنة، وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة».
هناك اختلافات واضحة بين المذاهب الإسلامية في هذا الشأن، حتى أن الخلاف واقع بين فقهاء المذهب الواحد في كثير من المسائل، وهذا ما دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، في كلمته التي ألقاها عنه الأمير سلمان بن عبد العزيز، خلال حفل الاستقبال السنوي لقادة الدول الإسلامية، وكبار الشخصيات، وضيوف خادم الحرمين الشريفين، ورؤساء بعثات الحج، إلى «نبذ الخلافات، والتناحر»، مشيراً إلى أن «الخلاف بين المذاهب الإسلامية رحمة للعاملين، على ألا يكون مدخلاً للمساس بعقيدتنا السليمة». وقد جاء في نص فتوى المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة أن اختلاف المذاهب الفقهية في بعض المسائل له أسباب علمية، اقتضته حكمة بالغة من الله تعالى، منها: الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة، وثروة فقهية تشريعية، تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد حصراً لا مناص لها منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء في وقت ما، أو في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً، سواء أكان ذلك في شؤون العبادة، أم في المعاملات، وشؤون الأسرة، والقضاء، والجنايات، على ضوء الأدلة الشرعية.
هذا النوع من اختلاف المذاهب، وهو الاختلاف الفقهي، ليس نقيصة ولا تناقضاً في ديننا، ولا يمكن أن لا يكون؛ فلا توجد أمة فيها نظام تشريعي كامل بفقهه واجتهاده ليس فيها هذا الاختلاف الفقهي الاجتهادي. فالواقع أن هذا الاختلاف لا يمكن أن لا يكون؛ لأن النصوص الأصلية كثيراً ما تحتمل أكثر من معنى واحد، كما أن النص لا يمكن أن يستوعب جميع الوقائع المحتملة؛ لأن النصوص محدودة، والوقائع غير محدودة، كما قال جماعة من العلماء - رحمهم الله تعالى - فلا بد من اللجوء إلى القياس، والنظر إلى علل الأحكام، وغرض الشارع، والمقاصد العامة للشريعة، وتحكيمها في الوقائع، والنوازل المستجدة. وفي هذا تختلف فهوم العلماء، وترجيحاتهم بين الاحتمالات؛ فتختلف أحكامهم في الموضوع الواحد، وكل منهم يقصد الحق، ويبحث عنه، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، ومن هنا تنشأ السعة، ويزول الحرج.
فأين النقيصة في وجود هذا الاختلاف المذهبي؟ الذي أوضحنا ما فيه من الخير والرحمة، وأنه في الواقع نعمة ورحمة من الله بعباده المؤمنين، وهو في الوقت ذاته ثروة تشريعية عظمى، ومزية جديرة بأن تتباهى بها الأمة الإسلامية، ولكن المضللين ممن قصرت أفهامهم يصورون لنا اختلاف المذاهب الفقهية كما لو كان اختلافاً اعتقادياً؛ ليوحوا إليهم ظلماً وزوراً بأنه يدل على تناقض الشريعة، دون أن ينتبهوا إلى الفرق بين الخلاف في الأصول والخلاف في الفروع، وشتان ما بينهما.
بقي القول: إن ما حدث من اختلاف بين المذاهب الإسلامية في بعض الأحكام الفقهية الفرعية راجعٌ إلى المجتهدين، واختلاف أنظارهم، وتطبيقهم النصوص على الوقائع، بسبب اختلاف القراءات، أو عدم الاطلاع على الحديث الصحيح، أو الشك في ثبوت الحديث، أو الاختلاف في فهم بعض النص وتفسيره، أو اشتراك في اللفظ، أو تعارض الأدلة، أو عدم وجود نص في المسألة التي يراد معرفة حكمها، إضافة إلى أسباب أخرى جدت، تدل على تسويغ تباين الاجتهاد في فروع الشريعة، ووقوع الخلاف فيها، مع ملاحظة اتفاق هؤلاء الأئمة - رحمهم الله - في الأصول، والقواعد العامة للشريعة والفقه.
وما أجمل كلاماً قرأته في هذا الباب للأستاذ عبد الوهاب بن محمد الحميقاني، وفيه: «وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا فاختلافهم اختلاف رحمة، وهدى، يقر بعضهم بعضاً عليه، ويواليه، ويناصره، وهو داخل في باب التعاون، والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم، ودنياهم بالتناظر، والتشاور، وإعمالهم الرأي، وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب؛ فيأتي كل بما قدحه زناد فكره، وأدركته قوة بصيرته، فإذا قوبل بين الآراء المختلفة، والأقاويل المتباينة، وعرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسنة رسوله، وتجرد الناظر عن التعصب، والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه؛ فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه، ومراتب القرب والبعد متفاوتة. وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة، ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا في مسائل كثيرة.. فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقوى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة، والمحبة، والمصافاة، والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة، ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه، وأعلم منه».