إذا سأل سائل: ما الذي يُعجب كائنًا من الجِنّ في التلبّس بكائن من الإنس، حسب التفكير الشعبي العربيّ؟ فلن يجد مجيبًا. غير أن العقل الخرافي مهيّأ بطبيعته لتقبّل أيّ أكذوبة، وبسعة رأس. فلو قيل إن الجِنّ يؤذون الإنس، لربما بدا ذلك معقولًا، عند غير المؤمن على الأقل، ولكن الثقافة الشعبيَّة مصرّة على أنهم يدخلون الأجساد، هكذا بكلّ سهولة! أمّا كيف، فألغ عقلك لتفهم، أو بالأصح لكي تستسيغ الفكرة؛ لأنها لا تُستساغ بحضور العقل! وإنما هي العقيدة الروحانيَّة القديمة، التي كان العربُ بسبب تصوّرها يُقدِّسون بعضَ الناس، وبعضَ الحيوان، وبعضَ الشجر، وبعضَ الحجر، اعتقادًا بأن أرواحًا مقدَّسة قد حلَّت في تلك الأشياء؛ والمقدَّس إنْ دخل شيئًا من الطبيعة قدَّسه، أي أكسبه القُدسيَّة، في تصوُّر القوم. هي، إذن، (فكرة الحلول) نفسها، التي وظّفها كلّ صاحب اعتقادٍ حسب اعتقاده، من حلول أرواح مقدَّسة إلى حلول أرواح شريرة إلى حلول الله سبحانه، لدى من زعموا ذلك الزعم.(1)
قالوا: بل وقد يُجامِع الجِنُّ الإنسَ!
وإلى هنا يبلغ سيل المَخْرَقة الزُّبَى! يقولون هذا، ونصّ القرآن يقول: «وخَلَقَ الجَانَّ مِن مارِجٍ مِن نارٍ». ومن ثمّ فأحد أمرين: إمّا أن نصدِّق مَن يدّعي ذلك، فنكذِّب الآية، أو أن نصدِّق الآية والعقل، ونكذِّب المُبْطِلين، من ذوي العقل المخطوف. وهناك خيار ثالث، هو في الواقع الخيار المثالي عند هؤلاء، أن لا تكون لنا عقول كي نصدِّق أيَّما كلام يُقال، من قبيل أن مارجًا من نار بإمكانه أن يدخل بين لحمٍ ودمٍ دون أن يُحيِل الإنسان في ثوانٍ إلى (كباب)، أو إلى (شاورما)، بل إلى فحمٍ لا لحم! وكلّ عاقل- وليس المؤمن وحده- بإمكانه أن يجد من الثقة ما يدحض به مثل هذه الافتراءات؛ مدركًا أن الحكاية كذبٌ كلّها في كذبٍ ودجلٌ في دجل! فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا؟!
من حقّ كلّ عقلٍ أن يُراجع المزاعم المؤبَّدة تلك؛ لأن القرآن- قبل كلّ كتاب- يُخبِر أن الجانّ من نار، بل من مارجٍ من نار، أي من نارٍ مندلعة اللَّهَب والسطوع، وهذا معنى «مارج النار». أ فَـيَفْـقَه حديثًا- لغويًّا أو منطقيًّا أو قرآنيًّا- مَن يظلّ يهذي بعد هذا أن بالإمكان أن يُداخل جسدَ إنسان مارجٌ من نار، ويبقى متعايشًا معه، وكأنه مجرَّد حَمْلٍ أو طعامٍ أو ماء؟! لا سبيل هنا إلّا بإلغاء النصّ الواضح الصريح، أو تأوُّله كالعادة، للتحايل عليه من أجل مروياتٍ جاهليَّةٍ وأفكارٍ خرافيَّةٍ راسخة، أو ابتداع اجتهادات غريبة؛ توفيقًا بين الأُسطورة والعِلْم، لا لشيء إلّا لتمرير فكرةٍ قديمةٍ بالية، باتت من أثبت الثوابت، والتي لم تخرج من الرأس العربي منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم حول هذه المسألة.. والرأس العربي، في مثل هذا الأمر، «عَهْدُه بالفاليات قديم»!
ويجدر التصريح في هذا السياق من الطرح أن القائلين بأن «لا عقل في الدِّين» إنما هم في حقيقة أمرهم أتباع الدِّيانات الباطلة في كلّ زمانٍ ومكان. فالقائل بأن «لا عقل في الدِّين» هو نفسه ذلك الأعرابي الذي كان يصنع إلاهًا من تَمْرٍ، حتى إذا جاع التهم إلاهه! ولئن سألته ما هذا السَّفَه؟ ليقولنّ لك: «لا عقل في الدِّين»! الدِّين اعتقادٌ أعمَى، أحمق، إذن! وبذا فكلّ الأديان صحيحة، ولن تقوم حُجَّة ببطلان دِينٍ أبدًا. فما دُمتَ قد أسقطتَ العقل، فقد باتت كلّ الدِّيانات والمِلل والنِّحَل- من الهند إلى أمريكا اللاتينيَّة- سواء في إمكانيَّة الاعتناق، والتسليم بمشروعيَّة الاعتقاد! والعجيب في هذه الجرأة الفاحشة على الاستخفاف بالعقل وبخالق العقل ووظيفة العقل- إنْ في الوجود أو في ما بعد الوجود- أن القرآن الكريم يُلقَى ظِهريًّا لدى القائل بأن «الدِّين ليس بالعقل»! لأن القرآن جاء، لا ليقول بأن «لا عقل في الدِّين»، بل ليقول العكس تمامًا؛ فيكرِّر ويؤكِّد أن الدِّين بالعقل، وأنه ما صرف الناس عن الهُدَى إلّا تنحية العقل، وأن مفتاح معرفة الحقّ دائمًا هو العقل والتفكُّر والتدبُّر. «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّـهِ وآيَاتِهِ يُؤْمِنُون؟!» كما أن القرآن لم يلتفت قطّ إلى تلك الترّهات جميعها التي خاض فيها الخائضون من شأن الجِنّ وعدوانهم على عواصم المسلمين وخصوصيّاتهم على مرِّ العصور، فشغلوا البشر، وأفسدوا عقولهم وعقائدهم. أجل، إن القرآن لم يجعل لها أيّ وزنٍ، لا في اعتقادٍ، ولا في عملٍ، ولا في تصوُّر.
فمن أين جاء ذلك الوباء كلّه؟
من جاهليَّة ما قبل الإسلام!
تفصيل ذلك أن المسألة أصلها، وبيت الداء فيها، يكمن في أمرين:
أوّلهما، رواياتٌ وسِيَرٌ وأخبار- كان أوّل من نهى عن تدوينها والانشغال بها محمَّد، عليه الصلاة السلام، وخلفاؤه الأوّلون- أفسدت العقول والنفوس وشوَّهت صورة الإسلام بعامَّة، لدى المسلمين قبل غير المسلمين؛ تناسلت في غضون الصراعات السياسيَّة والمعرفيَّة والفكريَّة منذ عصر بني أُميَّة، منتجةً تراثًا من الرُّكام الغريب، ما تزال الأُمَّة المسلمة- المستلَبة بجهلها المغلوبة على عقلها المبتزَّة بأساطين استغفالها- ترزح تحت نِيره إلى اليوم، أُلْبِسَ لبوس القداسة والأسلمة، ثمّ خَلَفَ خَلْفٌ اعتنقه وسلَّم به مغمض البصر والبصيرة. وكان على رأس قائمة ذلك الرُّكام عنوان عريض، يقول: «لا للعقل!»، وعنوان فرعي يقول: «من فَكَّرَ، كَفَر!»
وثاني تلكما العلَّتين، في مسألة التلبُّس تحديدًا، أن العرب ما انفكّوا يعبدون الجِنّ. تلك حقيقة مخزية! نعم، إن العرب ما انفكّوا يعبدون الجِنّ، أو قل يُجِلُّون الجِنّ ويخافونهم ويتقرَّبون إليهم ويعملون لهم ألف حساب، منذ الجاهليَّة حتى اليوم، ومن (المدينة المنورة)- حيث حكايات الجِنّ والسِّحر المتوالية المشهورة- حتى (جبال الأطلس) في (المغرب)، حيث مَلِك ملوك الجِنّ (شمهروش)، الذي يقصده القاصدون زرافات ووحدانًا على ظهور الحمير لتجديد مبايعته، وولائهم لمملكته، وطلب الشفاء منه!(2) ما لهم كيف يُفكِّرون ويحكمون، بل ما لهم كيف يُؤمنون؟! ولا لوم على أشباه الناس، ممَّن هم كالأنعام بل هم أضلّ سبيلًا، بل اللَّوم كلّ اللَّوم على الدُّوَل، وعلى المؤسَّسات، دِينيَّة، وتعليميَّة، وثقافيَّة، وتوعويَّة، في البلدان التي ترتع فيها تلك الخزعبلات. وما من بلدٍ عربيٍّ ولا مسلمٍ إلّا وهو غارقٌ في مستنقعاتها، بدرجةٍ أو بأخرى. تلك الدُّوَل بمؤسَّساتها، القابعة تتفرَّج على انتهاك حقوق العقل، الذي كرّم الله به الإنسان، جهارًا نهارًا، وهي شاغلة منشغلة بتوافه القضايا والأحداث. أ عن غفلةٍ ذلك أم عن قصد؟! ثمّ لا نستحيي أن نسأل: لِمَ نحن متخلِّفون؟ لِمَ نحن نُتخطّف في تلك اتجاه؟ لِمَ نحن نُفرِّخ للعالم دواجن الإرهاب والعَتَه والعاهات البشريَّة؟ لِمَ إنساننا منحطٌّ حتى عن درجة الحيوانيَّة؟ لِمَ؟ ولِمَ؟ ولِمَ؟ وما الذي يُرجَى من إنسانٍ نشأ دابَّةً، وعاش دابَّةً، لا كرامةَ، ولا فؤادَ، ولا عقل. ربما كانت تلك سياسة ناجعة حكيمة لاقتياد الشعوب كالسائمة، إذن. فما دام هذا الإنسان محكومًا بشمهروش وزبانيته، فيا له من مواطنٍ صالحٍ، مسالمٍ، تابعٍ لكلِّ الشماريش في الأرض، من جِنٍّ وإنس!
***
(1) في القرن العشرين ظهر على الناس شيخ اسمه (علي بن مشرف العمري)، بوصفه راقيًا من الجِنّ، وانتشرت تسجيلاته إذ ذاك، وهو يتفل تارةً ويصيح تارةً أخرى أو يضرب، والمريض يهذي ويصيح بدَوره! وبطبيعة الحال، في أجواء كتلك من التهويل والإيهام والاستيهام والتفل والصراخ والضرب، سيُجَنّ العاقل ويركبه ألف عفريت من الإنس قبل الجن! ولقد أثارت تلك التسجيلات «فتنة» كبرى- بحسب المصطلح الفقهي لدى فقهاء الفتنة- واستخفّت عقول كثير من ضعفاء العقول والنفوس. وكانت بلبلة عظيمة غير مسبوقة في جزيرة العرب، حسب علمي؛ لأن أحفاد من «كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مؤْمِنُون»، قد تشرّبوا هذه الثقافة منذ الجاهليَّة الأولى إلى اليوم. ثمّ ها هو الشيخ ذا يتراجع عن ذلك الفكر الضالّ المضلّ، ويعترف عن تجربةٍ بأن الأمر استغفالٌ صريح للناس وكذبٌ في كذب. ولا شكّ أن هناك من المنتفعين ماديًّا واجتماعيًّا، الحريصين على استدامة الجهل وتغييب العقول بين الناس، مَن نقموا على الشيخ رجوعه إلى الحقّ وعدوله إلى العقل، ولاسيما أن سوق هؤلاء المتاجرين بالعقول اليوم أكثر رواجًا في عصر الوسائط الحديثة من عصر «الكاسيت» أيّام جِنّ العمري القدماء، وهؤلاء المنتفعون يحملون رسالة في نشر الخرافات والأوهام والأباطيل عبر التقنية الحديثة، من القنوات الفضائيَّة إلى «الواتساب». وهم بلا ريب أخطر من مروِّجي المخدِّرات، عقيدةً وعقلانيَّةً، وأجدر بسدّ دكاكين شعوذاتهم، لو كانت ثمّة جِدِّيَّة في حمل الناس على الحق، وحماية العامَّة من هرطقات السفهاء!
شاهِد شهادة الشيخ في موضوع الجِنّ والمشتغلين بهم على هذا الرابط:
(2) عن شمهروش عرضَ (مركز تلفزيون الشرق الأوسط MBC) تقريرًا فاضحًا عن حالة العرب وعقولهم، على الرابط الآتي: