عندما أفكر في فقرنا المدقع في مصادر المياه الطبيعية، أتساءل: كيف ستواجه أجيالنا القادمة، وأبناؤنا وأحفادنا، هذه الطامة التي تتسع وتتضخم رقعتها مع كل يوم جديد، ومع زيادة عدد السكان، وفي المقابل تناقص المياه الجوفية بشكلٍ يتفاقم بصفة مستمرة؟
العربي عُرف عنه أن التخطيط على المدى البعيد، فضلاً عن القريب، لا تعرفه قواميس ثقافته، فالمعادلة الحياتية لأكثر العرب، ونحن مهد العرب، وأصل ثقافتهم، تقول: (أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب). وعندما تسأل: طيب أفترض أن ما في الغيب لم يأتِ، كيف ستتصرف؟ يتهرب، ولا يجيبك، لأنه ببساطة لا يملك حلاً.
يقول جل وعلا: (وجعلنا من الماء كل شيء حي)؛ أي لا حياة بلا ماء.
وهذا يعني لا «تنمية بلا ماء»؛ والتنمية - كما يقولون - هي شرط الضرورة لبقاء الدول، فإذا لم يتوفر هذا الشرط لا يمكن أن تبقى وتستمر هذه الدولة أو تلك في العصر الحديث؛ أي أن الماء لبقاء التنمية، هو مثل الماء لبقاء الإنسان، ومن المتعارف عليه، حتى أصبح من بدهيات عصرنا، أن السعر من شأنه أن يحافظ على السلع، وكمياتها، والعكس صحيح، فكلما زاد سعر سلعة ما قل الطلب عليها، وبالتالي تم ترشيد استهلاكها بشكل تلقائي؛ والماء في البلدان التي تفتقر إلى مصادر المياه الطبيعية مثل بلادنا يجب أن يكون الماء فيها سلعة غالية، بل وغالية جداً؛ فمحطات تحلية المياه المالحة في بلادنا - مثلاً - تقوم على إمداداتها من المياه أغلب مدننا الرئيسة، ومن المعروف أن محطات تحلية المياه تستهلك جزءاً كبيراً من النفط، ما يجعل تكلفة الماء الذي نستهلكه في منازلنا مرتفع التكلفة، وفي المقابل، فإن بلادنا على الرغم من أنها تعاني الفقر المدقع في مصادر المياه، وتكلفنا تحلية مياه البحر غالية، هي من أرخص بلدان العالم في أسعار المياه.
وهذا (خلل) لا بد من تلافيه، وإصلاحه، لأن بقاءه على ما هو عليه - لأي سبب كان - لا يعني أننا نحن فقط من سيتضرر، وإنما ستُحملنا الأجيال القادمة مسؤولية تفريطنا في هذه الثروة المائية التي تتناقص، وتكلفنا الآن، وستكلفهم أكثر، الغالي من الأموال؛ وربما تصل بنا، وربما بهم، إلى كارثة لا يعلم إلا الله مآلاتها.
ولعل من أهم وأعظم ما انتهجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - في عهده الميمون أن أرصدة حكومة المملكة المالية الخارجية، ومعها أيضاً الاستثمارات الحكومية في الداخل، تربو على (التريليون دولار)، وزيادة هذه الأرصدة، والحفاظ عليها من التبذير والإنفاق غير المسؤول وغير المبرر، هي من أهم أسس استراتيجياته السياسية في إدارة البلاد كما هو معروف؛ وستعرف الأجيال القادمة قيمة منهجه حفظه الله، ومعنى وسبب استتباب الأمن والاستقرار في البلاد.
هذه حقيقة عرفناها وأدركناها جلياً، وبالذات حينما عصفت بمن (حولنا) عواصف ما يُسمى بالربيع العربي، ونجت منها المملكة بفضل الله وقدرته، ثم بفضل سياساته حفظه الله، وعلى رأسها الحفاظ على أرصدة المملكة المالية لاستمرار عجلة التنمية وعدم توقفها، وهذا ما يُجيب عن سؤال يطرحه الكثيرون داخل المملكة وخارجها مؤداه: لماذا عصفت هذه الرياح بغيرنا، واستعصت عليها بلادنا.
ولأن أرصدتنا المائية، تتناقص، وتكلفة تحلية مياه البحر تتزايد، فهي لا تقل أبداً عن الحفاظ على أرصدتنا المالية لضمان التنمية وبالتالي الاستقرار.
والسؤال الذي لا بد من طرحه: لماذا لا نتعامل مع شح مواردنا المائية، بحزم وصرامة، ونسعى - على الأقل - إلى رفع أسعار الماء المستخدم في المنازل بشكل تدريجي وتصاعدي حتى نضمن في النتيجة ترشيد استهلاكاته؟ إنها دعوة صادقة أرفعها إلى مقام والدنا وقائد نهضتنا خادم الحرمين الشريفين - أمد الله في بقائه - بالعمل على مواجهة هذه الطامة، التي تتفاقم مع مرور الزمن ونحن - للأسف - عنها غافلون.
إلى اللقاء.