الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى.. فعندما تفشل السياسة في حل الصراع قد تأتي الحرب لتعدل مسارها أو تحرك مسارات جديدة وتعيد ترتيب الوضع لصالح المنتصر.. للأسف هذا ما تقوله كثير من التجارب السابقة وأدبيات السياسة الكلاسيكية.
وإذا كان النظام الدولي وقانونه لم يستطيعا أن يعيدا الأراضي المحتلة لشعب ما، فالمتوقع من هذا الشعب أن يبحث عن وسائل أخرى، وهذا حقه الطبيعي وحقه الذي تكفله كافة المواثيق الدولية. قضية فلسطين هي تحرير أرض وإقامة سيادة عليها، وأية مفاوضات سياسية أو مواجهات عسكرية أو سلمية لا تحقق جزءاً من هذين الهدفين أو تُقرِّب لهما فإنه يصعب الحديث عن انتصار، والعكس صحيح: أي إنجاز يُقرِّب لهذين الهدفين يعد انتصاراً مرحلياً وهو ما يبدو أن مقاومة غزة الباسلة أثمرته..
وسائل حل القضية الفلسطينية المطروحة في الوضع الراهن ثلاث: هناك مؤيدون لخيار الكفاح المسلح لأن ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلى بالقوة مهما كانت درجة قوة أو ضعف المقاومة؛ وهناك من يؤيد الحل السياسي لأن الكفاح السابق أنتج واقعاً جديداً لا بد من استثماره سياسياً ولا يمكن استمرار الحرب إلى ما لا نهاية.. وهناك تيار ثالث أقل من سابقيه يؤمن بالمقاومة السلمية (عصيان مدني، مواجهات سلمية، انتفاضة، مقاطعة..) فأنجح عمليتي تحرر من المحتل حدثتا في القرن العشرين (الهند وجنوب إفريقيا) كانتا عبر مقاومة سلمية..
كل خيار له مبرراته ويحمل في طياته إيجابيات وسلبيات، وقابل للرفض والتأييد، لكن إثارة نقاشاتنا الحادة والمجادلات حول هذه الخيارات، والاتهامات المتبادلة أثناء ذروة صمود غزة أمام الهجمة الإسرائيلية الإجرامية هو توقيت يؤثر سلباً على الوضع الخاص لهذا القطاع وعلى الوضع العام الفلسطيني والعربي. ففي ظل القصف الوحشي الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني ضد غزة، وقبلها المأساة الإنسانية الحادة التي يعيشها الفلسطينيون هناك نتيجة الحصار البشع، ينبغي أن ينصب النقاش حول ما يدعم غزة مباشرة وتأجيل الخلافات النظرية لما بعد وقف إطلاق النار.. لكن للأسف الساحة العربية تزخر بنقاشات حادة حول هذا الموضوع كثيراً ما ينتج اتهامات متبادلة وتخوين بين أطراف النقاش..
ورغم أن هناك الكثير من النقاشات المناسبة لدعم غزة في هذا التوقيت.. مثل: كيفية استثمار الوضع لدعم القضية الفلسطينية؛ كيفية دعم وحدة الصف الفلسطيني؛ البحث عن أفضل السبل لتوفير المساعدات الإنسانية والتبرعات لغزة؛ طرق إيقاف العدوان على غزة؛ أفضل السبل في مقاومة هذا العدوان.. إلخ؛ لكن ما يشوش على ذلك هو المساجلات الحادة غير المناسبة توقيتاً، مثل: إدانة أصحاب الحلول السلمية أو إدانة أصحاب المقاومة بأقذع الألفاظ... واتهام فصيل بأنه المتسبب بهذا العدوان؛ أو تبسيط الصراع باسم الواقعية السياسية (البراجماتية)، إلى حساب مباشر للربح والخسارة، كأن القضية خلاف حدودي أو سياسي طارئ أو صراع مؤقت وليس سلسلة طويلة من صراع وجود مقابل احتلال بدأ باصطناع دولة غريبة مستمرة بأدائها العنصري والعدواني..
ماذا نستفيد -في هذا التوقيت- من طرف تفرغ لاتهام من اقتنعوا بجدوى الحلول السياسية السلمية بالتصهين والعمالة والخيانة والتكفير؟ وبالمقابل ماذا نستفيد من طرف يتهم المقاومين ومناصريهم بالغوغائية والاحتيال واللعب على العواطف والسفه السياسي والمتاجرة بدم الشهداء؟ كأننا لا نكتفي بحجم المأساة الإنسانية في غزة والخسائر في الأرواح والممتلكات، بل نضيف لها خسائر سياسية وثقافية.
تضمن كافة المواثيق الدولية وقبلها الحقوق الطبيعية حق الشعب المحتل في اختيار أنواع المجابهات المناسبة من أجل تحرره واسترداد حقه.
وإذا كان من حق كل فصيل أن يعبر عن المجابهة التي يراها مناسبة (مسلحة، سلمية، سياسية)، للوصول للهدف النهائي الموحد، فذلك يستدعي نظرياً توحيد الفصائل المقاومة أو كحد أدنى تفادي المواجهة فيما بينها كي لا تضعف بعضها البعض..
إنما الصعوبة واقعياً تكمن في أن الفصائل المنخرطة في الحلول السلمية وتوقيع معاهدات، تدخل في برامج سياسية وتنموية، وفي علاقة تشاركية مع المحتل، والتزامات دولية مما يضع علاقتها مع الفصائل المسلحة في حرج قد يصل إلى الصدام. وهذا المشهد حدث كثيراً في القرن العشرين، في الكثير من أصقاع العالم. لكن هناك تجارب عالمية نجحت في تفادي أن يتحول الاختلاف إلى صدام بين الفصائل، بل في حالات معينة تم استثمار هذا الاختلاف لصالحها (التنسيق المباشر أو الضمني غير المباشر بين الجناح السياسي والعسكري) كما في التجربة الأيرلندية والكردية.
فالفصائل التي تتفاوض سياسياً سيتحسن موقعها التفاوضي، عندما تستند إلى قوة مقاومة على أرض الواقع، حتى لو كانت هذه القوة من فصيل آخر.. فمثلاً من المتوقع سياسياً أن يرتفع السقف التفاوضي للسلطة الفلسطينية نتيجة المقاومة الفذة في غزة وتكبد الجيش الصهيوني خسائر غير متوقعة، رغم أن الفصيل الأول يعلن خلافه مع خط الثاني، والعكس صحيح.. وهذا ما تبدو ملامح استثماره من لغة الخطاب الرسمي الفلسطيني للرئيس محمود عباس..
إذا كان من حق فصيل انتقاد نوع المقاومة لفصيل آخر، فإن هذا الحق يحتاج لحصافة سياسية في طريقة طرحه وتوقيته.. فإذا اختلفت الاستراتيجيات بين الفصائل، فينبغي ألا يشتت ذلك وحدة الصف عندما يتعرض فصيل للهجوم من الخصم؛ لأن الأهداف واحدة. إذا قلنا إن الاستراتيجية هي فن اختيار الأولويات، فإن الخلاف الأساسي في قضية فلسطين هو في استراتيجيتي الحل السياسي أو الكفاح المسلح، والفكرة التي تنطلق من كل منهما تختلف من حيث المرتكزات والأيديولوجيا، وتختلف كل منهما في ظروفهما السياسية التي تؤثر في مرونة التصرف وديناميكية العمل السياسي وسهولة أو صعوبة تبديل الخطط خلال مراحل المقاومة.. لكن لأن الأهداف النهائية واحدة لديهما، فمن الحصافة السياسية أن تكون هاتان الاستراتيجيتان مكملتين لبعضهما، أو على الأقل أن يتم تجنب المواجهة بينهما قدر الإمكان.
الخلاف السياسي مسألة طبيعية بين الفصائل المختلفة وينبغي مناقشته، لكن طرحه غير مناسب في أوقات الصدام المباشر مع العدو المشترك، فكيف إذا زاد المثقفون من حدة هذا الخلاف ووسعوا من نطاقه، وصبوا الزيت على النار، ليتحول إلى تناحر يفرق في وقت المقاومة بأحوج ما تكون إلى وحدة الصف، وسكان غزة في أحوج ما يكونون إلى الدعم المعنوي والمادي.