تحدثت في مقالات سابقة عن السمات المشتركة التي استمدت منها التنظيمات الموغلة في التطرف رؤاها لهدم الكيانات السياسية والفكرية القائمة وبناء جماعات جديدة تستلهم كفاح الثائرين الأوائل ممن تمكنت في أعماقهم مشاعر السخط والرفض والنقمة؛ فكونوا لهم منهجا؛ حتى غدا من بعدهم لا منهجا فحسب؛ بل عقيدة يقاتل عنها المنتمون إليها ويذبون عن حياضها ويقدمون أنفسهم شهداء من أجلها، وهي عقيدة «الخوارج» التي أعاد صياغتها من جديد مفكرون ثائرون أو محتجون أو رافضون، وإن لم تبد جلية واضحة للعيان كما فعل الخوارج الأسلاف قديما حينما رفعوا خطابهم بصوت مجلجل على لسان زعمائهم؛ كعبد الله بن وهب الراسبي أو حرقوص بن زهير أو سنان بن حمزة الأسدي أو زيد بن حصن الطائي وغيرهم؛ ولكنها تعود من جديد في صورة خطابات فكرية محرضة تستلهم النصوص الدينية وتفجرها من الداخل بإعادة قراءتها وكتابتها بالأحمر قبل الأسود وبالموت قبل الحياة وبالمغيب قبل الحاضر؛ كما فعل سيد قطب في تفسيره الظلال وفي كتابه الآخر «المنفستو» معالم في الطريق، وكما فعل لاحقا مؤسسا فكر القاعدة تلميذا المدرسة القطبية المخلصان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهما.
وإذا كان إحياء النهج الخوارجي الرافض الثائر غير مصرح به ولا معلن كنموذج يدعى له في الفكر القطبي ثم القاعدي؛ فإن التنظيم الداعشي الذي خرج على حياء القطبيين المستتر ثم على سياسة القاعدة المناورة والمحاورة قد أعلن عملا لا قولا تمثله التام به اعتقادا وتطبيقا وإن كان يتبرأ منه باللسان ويضمره بالجنان وتنفذه اليدان!
وما يؤكد تبني داعش فكر «الخوارج» حذو القذة بالقذة افتراقهم التام وحربهم المعلنة التي راح ضحيتها مئات المقاتلين من تنظيم «جبهة النصرة» التابعة لزعيمها محمد الجولاني، ومئات المقاتلين التابعين لتنظيم «الجبهة الإسلامية» الإخوانية، فداعش ترى أن هذين الفصيلين وما يشبههما لا يحققان الغاية المنشودة التي تسعى لها الأمة؛ وهي إقامة الدولة الإسلامية، ثم «الخلافة الإسلامية»!
والحق أن هذا الادعاء كذب وتزييف وقفز على الواقع وسعي استخباراتي مدروس قام على أساسه «داعش» لوأد وإجهاض حركات التحرر من النظام النصيري الطائفي في دمشق، بدءا من الفصائل الإسلامية التي قد تصل إلى أكثر من خمسين فصيلا معروفا مشهورا له وجود مؤثر على الأرض كما في النصرة والجبهة الإسلامية والمجاهدين وغيرهم وليس انتهاء بالثائرين من الوطنيين الذين يجمعهم «الجيش السوري الحر» على اختلاف توجهاتهم الليبرالية.
اتخذ «داعش» برؤية استخباراتية يجهلها كثيرون من المنتمين إليه الجانب الأكثر تطرفا وشططا في الموروث التاريخي الإسلامي ورفع أعلى الشعارات مثالية وأكثرها استجلابا واستدرارا للعواطف الدينية؛ وبخاصة لدى الشبان الذين يحترقون من أجل انتكاسات الأمة وهزائمها وحالة الضعف والهوان التي تمر بها الأمة في هذه المرحلة التاريخية الصعبة؛ فرفعت شعار «الدولة» ثم توسعت بصورة سريعة ومستعجلة إلى «الخلافة» ليكون الخطاب الداعشي أكثر خلبا، وقرنت ذلك في الصورة الخارجية المعلنة للتنظيم بالتشدد والقسوة ومحاربة البدع؛ فأقدمت على إراقة الدماء المعصومة بحجة التكفير ضد من تسميهم «المرتدون» ممن لم يعلنوا ولاءهم لها أو لم يبايعوا خليفة المسلمين أو ينتمون إلى طوائف أخرى غير سنية كالشيعة أو الصابئة أو الشبك أو التركمان وغيرهم ممن تم في حقهم تنفيذ الإعدامات الجماعية بصورة مرعبة كونهم لم يجيبوا على سؤال ديني أو لأنهم انتسبوا إلى طوائف غير سنية، وأسرفت كذلك في القسوة في تطبيق الحدود على بعض المخالفات؛ دون الأخذ بدرء الحدود بالشبهات كما فعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في عدم إقامة الحدود إلا بعد مهل وطلب تراجع ومحاولة أخذ إنكار ممن اعترف بذنبه كماعز والغامدية وغيرهما!
لقد كان هذا السلوك المتشدد مقصودا لاستجلاب المتشددين من كل العالم إلى دولة الخلافة المزعومة!. يتبع