يعود المخرج أو كما أسميه «المُنقذ» بمسلسل جديد هذا العام، عرضت حلقاته خلال شهر رمضان المبارك. أسميه منقذاً لأنه انتشل الدراما الخليجية من الشطح بعيداً عن قضايا المجتمع الفعلية والجوهرية والمنطلق من كسر التابوهات كتجارة كسبية محضة.
انتشلها من «صناعة الحزن» إلى صناعة الفن الجميل والإبداعي المعالج للقضايا بأقل قدر من الافتعالية والفوضى. من اقحام المواقف والأحداث غير المنطقية إلى حبكة قوية، محكمة وممكنة الحدوث، فلا تزعج المشاهد/ الناقد بالتنقل من حدث إلى حدث برابط فانتازي ولا يمت للواقعية بصلة.
مسلسل «ثريا» لم يكن فقط منعطفاً وعودة للدراما الجادة والإبداعية بعفوية حواره وأداء ممثليه وحبكته المنطقية، ابنة الواقع. بل في نقاشها لقضايا جدلية ودقيقة في المجتمع الخليجي والتحولات التي طرأت عليه في صراع ناري بين جيل الأجداد وجيل الآباء.
بعض الكتاب في الصحف الخليجية بخست قدر المسلسل حينما حصرته في «قضية زواج المواطنة من غير المواطن» ولكن القضية - من وجهة نظري - أكبر من كونها كذلك؛ فهي تتناول صراع للأجيال، جيل آباء السبعينات (متمثلاً في الجدة موضي) وآباء التسعينات (والألفين) متمثلاً (في الأم ثريا). جيل السبعينات بمعياريته الخاصة للخطأ والصواب، ومركزية القيادة، والطارد للاختلاف والمجرّم للاختيارات الشخصية، وإلزام الفرد بالطواف حول العادات والتقاليد وتصنيمها، ثم لعن كل متجاوز لخطوطها الحمراء خارج حضن المجتمع والعائلة. مركزية القيادة التي يتربع عليها (الأب أو الأم) دون مشاركة أفراد العائلة في صناعة القرارات. كل تلك العلامات والحيثيات الفارقة التي بدأت بالتحلحل مع دخول المجتمع الخليجي أعتاب التسعينات واتخذت ملمحها الواضح على وجه المجتمع مع هبات رياح التغيير العارمة في القرن الواحد والعشرين. فآباء الجيل الوسط ما بين السبعينات والألفين هم من عاش صراع النقلة النوعية وتحمل جلدة التغيير على ظهوره العاري من التجارب المسبقة لاختلاف الزمنين ومشكلاتهما وضروراتهما.
«ثريا» التي أدت دورها الممثلة القديرة سعاد عبدالله والتي قاست حرباً ضروساً ما بين خياراتها الشخصية وخيارات المجتمع، فكانت الغلبة لعقلها على عقل المجتمع فركلها خارج دائرته لتتلقفها الأقدار والتجاريب. «ثريا» صنعت أنموذجاً مختلفاً، يمكن اختصاره في حوارها مع أخيها في مواجهة صادمة حينما اشترى القناة التي كانت تعمل بها لأجل طردها منها وإيقاف برنامجها التلفزيوني. قال لها: (ما الذي استفدتِ الآن؟ خسرتِ العز والرخاء، «حلاتك» جالسة في بيتك مكرمة حاطة رجل على رجل، أو مع صديقاتك في الكافيهات....) فردت عليه: (لكني مابي احط رجل على رجل وأدور في الكافيهات. أنا سعيدة بخياراتي وأريد أن أعمل لآخر نفس في حياتي، وبشتغل.. وبتشوف!). لا أريد أن أصوّر «ثريا» على أنها الفتاة المتمردة على أعراف المجتمع، إنما هي نتيجة اختلاف نوعي في معايير الخطأ والصواب، فحينما تكون أعراف المجتمع عنصرية أو قبلية أو طائفية فلا يمكن لنا تسمية الخروج عليها تمرداً بل تصحيحاً شجاعاً. وهذا ما قامت به «ثريا»!.. ماكتبته هنا ليس تعميماً (فلا بد من نماذج مختلفة في كل مجتمع) إنما هو رصد لأوضح الخطوط العريضة.
المجتمع الصحي والحاضن كالشجرة أوراقها التفهم، الاحتواء، الدعم، مساعدة العاجز والمحتاج حتى ينهض على قدميه، وأن تكون معاييره واسعة لتقبل خيارات الأفراد والإيمان بها وبه. فحين تسقط هذه الأوراق يصبح المجتمع شجرة ولكنها شجرة عارية يفرّ من أغصانها الجرداء العصافيرُ!