لن أخوض في تفاصيل نظام ساند وآلية تطبيقه وليس لدي أي معلومات موثوقة حوله. كما أنني لن أتكلم عن أغراضه وأهدافه المُعلنة، التي لم تتعد بعض عبارات في مثاليات الأخلاق والمواعظ. والتي سيجد المجتمع في ثقافته وفي تجاربه السابقة وفي تخرصات أحاديث المجالس، ما يكفي من التأويلات والتبريرات النفسية لقلب هذه المثاليات إلى مثالب ولتحويرها وإخراجها عن موضوعها. ولذا، فسأقتصر في مقالي هذا، على وصف حقيقة ساند الاقتصادية وأهدافه التنظيمية الشبة مباشرة وغير المباشرة، المُوجِهة لسوق العمل.
فحقيقة ساند اقتصاديا أنه ضريبة على فئة من الأغنياء وشاغري المناصب ذي الرواتب المتوسطة والعليا، دون شاغري المناصب ذي الرواتب الدنيا. فقيمة نسبة 1% من الراتب هي قيمة تصاعدية تتزايد مع تزايد الراتب. وهي كذلك تتزايد مع تزايد حجم الشركة أو المنظمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أنه كلما ارتفعت كمية المبلغ المُساهم به، كلما قلت احتمالية هذا المُساهم من الاستفادة منه، سواء أكان شخصا حقيقيا كالموظف أم اعتباريا كالشركة.
فالموظفون ذوو الرواتب المرتفعة سيدفعون مبالغ أعلى، بينما هم الأبعد احتمالية عن الاستفادة منه. وهذا بخلاف نظام التقاعد (والتأمينات) الذي عندنا، الذي لا تُعتبر رسومه رسوم ضريبة - كأمريكا مثلا- بل هي رسوم تأمين. فكلما زادت قدرة الموظف على دفع رسوم تأمين أعلى - لارتفاع راتبه-، كلما حصل على وثيقة تأمين أفضل.
ولهذا يظفر ذوو الرواتب العليا بعوائد أفضل في نظام التقاعد والتأمينات عندنا، بخلاف من هم على الرواتب الدنيا. وخاصة أن هذه الفئة لا يكون لديها سنوات طويلة في الخدمة.
أما في نظام ساند، فعلى العكس من نظام التقاعد والتأمينات. فنظام ساند يُعتبر وثيقة تأمين جيدة لشاغلي الوظائف ذي الرواتب الدنيا لارتفاع احتمالية تنقلهم بين عدة جهات، سواء باختيارهم او بغير اختيارهم، فيكون لديهم أمان مالي خلال فترة التنقل.
و يكون التنقل باختيارهم لكونهم يكتسبون مهارات متنوعة خارج تخصص عملهم الذي قد لا يتطلب مهارة خاصة، مما قد يفتح لهم الفرص لوظائف أعلى لا تتوافر في شركاتهم. وقد يكون تنقلهم ليس باختيارهم، بل لعدم حصول التوفيق لهم في عملهم الأول أو الثاني فيُفصلون منه ويستفيدون من التجربة، او لعدم حصول التوفيق للشركة التي يعملون فيها، فتضطر لتسريحهم. فالشركات عند مرورها بالضائقات المالية، لا تتخلى عن موظفيها القدامى أو من يشغل المناصب الإدارية والتقنية الهامة، بل عن ذوي الخبرات البسيطة، ممن يسهل استبدالهم بعد خروج الشركة من ضائقتها. ولذا فنظام ساند هو وثيقة تأمينية مهمة لذوي الوظائف ذات الرواتب التي تقل عن العشرة آلاف ريال، لارتفاع احتمالية تنقله بين الأعمال وانقطاع دخله.
بينما يعتبر ساند شبه ضريبة محضة على شاغلي الوظائف ذوي الرواتب المرتفعة، لانخفاض احتمالية تنقله غير المُخطط له.
وكما هو الحال مع الأفراد فهو كذلك مع الشركات. فالشركات الضخمة تحتوي على موظفين كثر يتمتعون برواتب تزيد عن عشرة آلاف ريال وبنوع من الاستقرار الوظيفي، بخلاف الشركات والأعمال الصغيرة والمبتدأة. فما ستساهم به الشركات الكبيرة في نظام ساند، تذهب فائدته للشركات الصغيرة والمبتدأة. هذه الفائدة تتمثل في تسهيل توظيف السعوديين على الشركات المبتدأة والصغيرة، لإقبال السعودي عليها بعد أن أمن انقطاع دخله في حالة تغيير عمله.
وهذا يقودنا إلى معنى عبارة « مُوجِهة لسوق العمالة» التي أتيت بها في عنوان المقال. فالتوجيه المباشر ينصب في تخفيض نسبة البطالة. والتوجيه غير المباشر ينصب في ثلاثة أمور. رفع الإنتاجية وتحسين معاملة الشركات للموظفين ورفع مستوى الرواتب. فالتسهيل على القطاع الخاص في موضوع الفصل والاستغناء عن الموظف، هو أمر مهم وحيوي لخفض نسبة البطالة. فصعوبة الاستغناء وفصل الموظف، يجعل القطاع الخاص يتهرب من توظيف السعوديين خوفا من التورط بمن لا يصلح منهم.
كما انه يخفض الإنتاجية، بدفع الموظف السعودي للكسل وعدم المبالاة إن أمن عدم الفصل والطرد، كما أنه يدفع بالشركات على عدم تحسين أوضاع العاملين لديها لخوفهم من انقطاع دخلهم عند التنقل بين الأعمال. وهذا ليس بتنظير مثالي لا واقع له،- إذا ما أحسنت آلية التطبيق وروعيت هذه الأهداف- بل هو واقع مطبق.
فبهذا يُفسر اقتصاديا ارتفاع إنتاجية العامل الامريكي وعلوها على العالم كله. كما ان به يُفسر انخفاض نسبة البطالة الطبيعية في امريكا عن مثيلاتها من المجتمعات الصناعية. فسوق أمريكا العمالي من أسهل الاسواق العالمية في عملية الفصل والطرد والاستغناء، كما انه من أعلاها في حسن معاملة الموظفين وتهيئة مناخ مناسب جذاب في العمل. وأعلاها كذلك في رواتب المتميزين من الموظفين، وأعلاها في الحركة التنقلية للعمالة. وما مضى كله يتطلب وجود نظام يغطي الحاجة المالية للموظف المفصول او المستغنى عنه او الباحث عن عرض أفضل، ويجعل منه أمرا حيويا ومهما لتسهيل القرار على الموظف بترك من لا يُقدر جهده من أرباب الأعمال، وكذلك تسهيل القرار على الشركات بتوظيف السعوديين، غير المُبالين.
ولو لم يكن في القرار إلا انه أول ضريبة تصاعدية عندنا لكفانا هذا أن ندعمه ونفرح به، (فكيف وهو له أهداف ترفع من كفاءة سوق العمالة، إذا ما رُوعيت هذه الأهداف وحسن التخطيط لها في آلية التطبيق). ولعل سكوت الجهات المسئولة عن هذا النظام عن تبيين هذا للناس إما لعدم ثقتهم في القدرة على التخطيط للآلية التي ستحقق هذه الأهداف، أو عدم ثقتهم في القدرة على التطبيق. ولعل سكوتهم كذلك من أجل عدم تنبيه الطبقة المرتفعة الدخل المُعارضة لاصلاح نظام الضرائب والإعانات، أن نظام الضرائب التنازلية والإعانات التصاعدية قد آن أوان انتهائه. فجميع الضرائب عندنا تنازلية، أي أنها تنقص مع زيادة الدخل بينما تزيد الضرائب مع انخفاض الدخل (حتى المُقترح منها حاليا في دول الخليج بما يسمى ضريبة القيمة المضافة، فهي ضريبة تنازلية). بينما الإعانات عندنا تصاعدية، أي تزيد الإعانة بزيادة الدخل وتنقص الإعانة بنقصان الدخل. فالنسبة الثابتة في الضريبة تجعلها تنازلية وفي الإعانة تجعلها تصاعدية، فذو الدخل العالي هو المستفيد الأكبر عندنا في حالة الضريبة وفي حالة الإعانة، وجاء ساند ليكون الحالة الأولى في تطبيق الضريبة المتصاعدة، وأول الغيث قطرة ولعل الإعانات تتبع، فتصبح متناقصة بدلا من كونها اليوم متصاعدة.