دون سبق إصرار أو ترصد وجدت نفسي أدلف إلى بهوٍ جميل، هذا البهو ليس له حدود على أرض الواقع وإنما هو بهو مضيء مميز، في خيالي وحسب، التقيت فيه بكتاب تراثي جميل تصفحته بدهشة وإعجاب.
وربما يعلم كثير من عشاق القراءة والثقافة أنه رغم ثراء الكتب التراثية العربية القديمة إلا أن لها سمة غالبة وهي اللغة الثقيلة الصعبة خاصة على الأجيال الجديدة، هذا إضافة إلى الميل إلى الإسهاب والإطناب واستخدام المحسنات البديعية بما فيها السجع الذي يبالغ فيه البعض إلى الدرجة التي يطغى على الفكرة التي يراد تقديمها.
وقد وجدت بين دفتيه حكاية طريفة لأشعب مع والٍ بخيل، قلت لنفسي: لم لا أحدثكم بها لنخرج قليلاً عن الأجواء الكتابية الجادة التي فرضتها علينا بقوة الأحداث العالمية والعربية التي لا نستطيع فصل أنفسنا عنها مهما أوتينا من إصرار ورغبة في ذلك.. (مع ملاحظة أنني حاولت التخفيف من ثقل اللغة دون إخلال بالمعنى)..
يقول أشعب: وَلِيَ المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي وكان من أبخل الناس وأنكدهم وأغراه الله بطلبي ليله ونهاره، فإن هربت منه هجم على منزلي برجال الشرطة (اللهم لا تسلطنا ولا تسلط علينا / هذا ما أقوله أنا) وإن كنت في موضع بعث إلي من أكون معه أو عنده يطلبني فيطالبني بأن أحدثه وأضحكه، هذا ولا يطعمني ولا يهبني شيئاً، فلقيت منه جهداً وبلاء عظيماً.
وقد حان موعد الحج فطلبه ليكون رفيقاً له، فتعذر بأنه عليل ولا نية له للحج، فأصر الوالي مهدداً إياه بالحبس إن لم يأت معه، فذهب مكرهاً.
ويقول أشعب (ولما نزلنا منزلاً تظاهر الوالي بأنه صائم حتى انشغلت عنه، فأكل حتى شبع وترك لي رغيفين وملحاً.. ولما حان وقت المغرب سألت غلامه (أي خادمه) بعد أداء الصلاة عن الطعام) فأجابه بأن الوالي قد أكل منذ زمن وعلم أنه لم يكن صائماً.. اكتفى أشعب بالرغيفين وبات ميتاً من الجوع.
وهكذا في اليوم التالي، تناول الوالي طعامه وأشعب ينظر إليه ولا يدعوه.. ولما انتهى أَمرَ غلامه بأن يقدم له رغيفين وملحاً مثل الأمس.. وأكل الوالي شيئاً من الفاكهة ورمى له بلوز فيه قشر، لم يكن به حاجة إليه فرمى به إلى أشعب، وقد تسبب هذا القشر بكسر ضرسه حين همّ بأكله.
وفي لحظة أقبل بنو مصعب، يلبون للحج بأصوات جهورية، فصاح بهم: الغوث، الغوث.. العياذ بالله وبكم يا آل الزبير، إلحقوني، أدركوني.. فركضوا إليه قائلين: مالك ويلك؟ فأخبرهم الحكاية.
ويقول أشعب: فحلفت بالطلاق أني لا أدخل المدينة ما دان له بها سلطان، فلم أدخلها حتى عُزِل.