لم أرَ فرعاً من فروع الطب التصقت به المفاهيم الخاطئة والوصم والنظرة السلبية كالطب النفسي والمريض النفسي معه، ولم تكن هذه المفاهيم الخاطئة السائدة حديثة عهد بل التصقت وارتبطت به ارتباطا وثيقا منذ عصر الإغريق، فلقد مر تاريخ هذا العلم بعصور ظلام وبعصور نهضة، ولعل ابرز ما يمكن ذكره هنا الدور البارز الذي قام به الطبيب اليوناني أبقراط HIPPOCRATES الذي يعتبر مصلح الطب والشخصية العلمية الأولى ذات الأثر في المجالين الطب والنفسي حتى مجيء جالينوس، فلقد دحض وحارب العديد من المفاهيم الخاطئة التي التصقت بهذا الفرع، فرفض أن يكون الطب من عمل الكهنة وحرر المعالجة من تأثير الطب الكهنوتي والمفاهيم الفلسفية , وحارب من يؤمن باستخدام الطقوس السحرية في كونها سببا للشفاء من الأمراض، واعتمد المنهج التجريبي المعتمد على الاستنتاج المنطقي وتفسيره لطبيعة المرض ومسبباته تفسيرا فسيولوجيا نفسيا، ومن أشهر الأمراض التي تناولها الصرع والذهان.
استمرت محاربة هذه المفاهيم الخاطئة على مر العصور وعلى يد مجموعة كبيرة من الأطباء وعلماء أفاضل منهم ابن سينا، وفي عصرنا الحاضر ومع انتشار الوعي والتثقيف والدور الذي يقوم به الإعلام والمختصون ارتفعت نسبة الوعي بالمرض النفسي، ولكن بقيت هناك مفاهيم خاطئة مازالت مستمرة نذكر منها : الاعتقاد السائد بأن كل من يراجع العيادة النفسية هو مجنون، وهذا اعتقاد جائر أساء للمهنة وللممارسين وللطب النفسي بذاته قبل كل شيء، والصحيح هو أن هناك من يراجع العيادة النفسية بسبب مشكلة نفسية أو بسبب اضطراب نفسي أو بسبب مرض نفسي أو حتى لطلب تقييم حالة ولاستخدام ولتطبيق المقاييس بمختلف أنواعها الشخصية ومقاييس لقياس درجة اضطراب محدد أو لعمل مقاييس الذكاء على الأطفال والراشدين. أما الأشخاص الذين وصلوا لمرحلة متقدمة جدا من المرض العقلي فيكون علاجهم وتأهيلهم في المصحات.
أيضا هناك فهم خاطئ وللأسف سائد بأن الأدوية النفسية تسبب الإدمان، وأنا أفضل استخدام كلمة التعود عوضا عن الإدمان للمعاني السلبية التي تحملها , عندما نتحدث عن الأدوية النفسية فنحن نتحدث عن نوعين: النوع الأول الأدوية المهدئة وهي التي إذا استخدمت استخداما سلبيا ودون إشراف طبيب وصرفها المريض من تلقاء نفسه أو بسبب نصيحة صديق فهي تسبب التعود عليها. ولذا يتم وصفها من قبل الطبيب النفسي ويتابع الحالة مع المريض. وهناك الأدوية المعالجة وهي غالبا تكون كورسا علاجيا يبدأ المريض الجرعة بالتدريج وينتهي من الدواء بالتدريج، تحت متابعة الطبيب مع استثناء أن هناك أمراضا بطبيعتها قد تعود وتحدث انتكاسة، فالطبيب يطيل فترة العلاج وقد يحصل أن يقطع المريض الدواء من تلقاء نفسه عندما تخف الأعراض ولم ينتهِ كورس العلاج، وهذا خطأ من المريض، فهذه الفترة تعتبر فترة انقطاع , وأيضا هناك أمراض علاجها قد يستمر مدى الحياة كمرض الضغط والسكري ومثل مرض الفصام والاضطراب الوجداني ثنائي القطب.
وعلى جانب آخر تجدر الإشارة إلى أن هناك فئات من المجتمع بسبب قلة الوعي والجهل أساءت للمريض النفسي، فهناك مرضى يعانون في صمت وألم نفسي مضاعف وعندما صرحوا بالرغبة في العلاج وزيارة الطبيب النفسي صدموا برفض الأسرة للفكرة، فيظل المريض في دائرة المعاناة إلى أن تتطور الأعراض وتشتد وبعدها تقتنع الأسرة وتحضره للمستشفى، لكن يترتب على هذا أن الحالة علاجها سيطول على العكس لو كان التدخل مبكرا. وهناك حالات لأسر تسعى وتطلب التدخل من المختصين وهي التي تحضر للعيادة لشرح الحالة، فالمريض غير معترف بمرضه ولا يرى أنه مريض.
وفي المقابل هناك أسر واعية قدمت نماذج إيجابية للمجتمع فهي وقفت وساندت في كل مراحل العلاج إلى أن انتهى وتشافى، فهي تفهمت المرض والمريض النفسي.
هناك أمراض عقلية أصيب بها كثير من العلماء والمشاهير فبعض الأشخاص يعانون أو قد يمرضون لانهم مختلفون عن العامة في فكرهم وفي سلوكهم وفي انفعالاتهم، إما بالتقدم عليهم بسبب قدراتهم العقلية العالية، فطرقهم مبتكرة ومختلفة في التعلم والإنتاج وقد تكون طرق إظهارهم وتعبيرهم تسبب الضيق لمن حولهم، وقد يقابل هذا الاختلاف من المحيطين بالرفض والنفور أو حتى الانزعاج، وهنا المريض النفسي قد يختار الابتعاد والانعزال والانطواء.
ختاما هناك اعتقاد وحقيقة لابد من السعي في نشرها وترسيخها، وهي بأن المرض النفسي هو مرض كأي مرض عضوي ويتعالج ويشفى - بإذن الله -.
نستكمل الحديث في مقالة قادمة عن الجانب الآخر من العلاج في الطب النفسي بجانب الأدوية، وهو العلاج السلوكي.