جنكيز خان المغولي استطاع أن يبني امبراطورية من أعظم إمبراطوريات التاريخ من حيث المساحة الجغرافية، في فترة وجيزة. السبب أن جنوده كانوا من أشجع من عرفتهم الحروب التاريخية، كما كانوا من أفظع الجيوش وحشية وعشقا للدماء، فما إن يفتتحوا مدينة أو قرية يُعملون سيوفهم في الناس قتلا، وأحيانا يحرقونها عن بكرة أبيها؛ حتى يقال إن عمليات الإبادة تمتد ليس فقط للإنسان وإنما إلى الحيوان أيضاً؛ وكانت هذه الإبادة تنتشر أخبارها انتشار النار في الهشيم، فما أن يتوجهوا إلى مدينة أو بلدة بغرض فتحها، حتى يتركها أهلها لهم ويلوذون بالفرار خوفاً وهلعا من همجيتهم، فكان هذا هو أحد أهم الأسباب التي جعلتهم يسيطرون على أغلب أجزاء الكرة الأرضية في مدة وجيزة.
الدواعش يبدو أنهم قرؤوا تاريخ جنكيز خان جيدا واعتقدوا - كما هو ديدن الماضويين - أن بإمكانهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والاستفادة من أسلوب هذا الفاتح الهمجي في معاركهم العسكرية في العراق. ولا بد من الاعتراف أنهم حققوا نجاحا في فترة قصيرة. غير أن مشكلتهم كما هي مشكلة غيرهم من المتأسلمين، أن التجارب لا يمكن أن تستوردها من التاريخ، وتغفل التباين بين الماضي والعصر الحالي؛ فالذي يقاتل بالسيف والخنجر ومن على ظهر بغل أو حمار، ليس كمن يقاتل من الجو، ويراقب تحركات عدوه بالأقمار الصناعية، ويستطيع من خلال أجهزة الرؤية الليلية المتطورة تقنياً أن يراك من حيث لا تراه، فيتصيدك كما يتصيد الصبيان الجرابيع في الليل البهيم من سياراتهم ببندقية هوائية (أم صتمة)، ولا يملك الجربوع سوى الفرار والمراوغة خوفا من الموت الزؤام.
الأمريكيون عرضوا فلما تسجيليا يصور كيف كانوا يلاحقون الدواعش في الليل، ويصطادونهم جماعات ووحدانا، فلا يملك الداعشي إلا أن يراوغ ويهرب تماماً كما تفعل الجرابيع والأرانب البرية والثعالب إذا طاردتها سيارة في الليل، وسلطت عليه الأنوار الكاشفة، لتنتهي الطريدة بالسقوط في مرمى بندقية الصياد.
استمتعت وأنا أتابع هذا الفلم، فمن كان يعتقد أنــه سيخيف ويرهـب العالم بجزّه للــرؤوس، والتفاخــــر بالتصوير وبين يديه رأس آدمي جَزّه حديثاً، ليرهب الآخرين، فهذا ما يجب أن يكون مصيره غير مأسوف عليه. فهو مثل الآفة التي تفتك بالبشر، يتباشر الناس عندما يتوصل العلماء الباحثون في مختبراتهم إلى دواء للقضاء عليها. غير أن الذي يهمني هنا أن يرى - (بالصوت والصورة) - بعض البسطاء والسذج الفرق بيننا وبينهم، وأن من اعتقد أن الشجاعة والإيمان (فقط) ستجعلهم يتحدون التكنولوجيا العسكرية المتفوقة، سيتحول حتما إلى جربوع هائم في صحراء يكتنفها ليل كالح السواد، تطارده عربة لتصطاده، وتلغي وجوده؛ وأن تلك العنتريات والعبارات الحماسية التي يتداولها المتأسلمون، ما هي إلا (خراط فاضي)؛ فطائرة (الدرون) بدون طيار تختلف تماما عن الخيل والجمال والبغال.. والجندي الذي كان في عصر جنكيز خان يمتطي هذه الدواب، يختلف عمن يوجه ويدير هذه الطائرة وهو في ولاية (فلوريدا) ويأمرها لتقصف فتحيل الطريدة إلى جثة هامدة. جندي جنكيز خان يحتاج فقط إلى الشجاعة والتوحش، والجندي الأمريكي لا قيمة لها في معادلات تفوقه، فالقيمة (فقط) في أن يتقن هذه الآلة ويحسن كيف يتعامل معها، وهو آمن على بعد آلاف الأميال.
أيها الأخوة. نحّوا عنكم كتب التاريخ بعيدا، ودعوا عنكم (تقمص) الماضي، فالأمجاد التي أنتم تستحضرونها، وتحنون إليها، لن تعود؛ ويخدعكم ذلك (الأهوج) الخطيب الذي يُمنيكم بأنها ستعود، إلا أن عشتم العصر، وشروط العصر، وعلوم العصر، واتسعت آفاقكم ورؤاكم لتروا الصورة مكتملة، بدلا من هذا التحدي الأجوف، والحنين الفارغ للماضي، ومنطق الكتب الصفراء المهترئة التي جعلتكم مسخرة لشعوب العالم، وفئران تجارب يُجرب عليكم الآخر أحدث ما توصل إليه من اختراعات وتقنيات.
إلى اللقاء.