يبدو أن الشركة الوطنية الكبرى -أرامكو السعودية- لم تقنع بالوصول إلى أعماق الأرض لاستخراج ثروة النفط والغاز، بل صمّمت على الوصول إلى أعماق العقول، لتثريها بباقة من المعارف العلمية الحديثة.
وهكذا نظّمت هذا المعرض العلمي الضخم المسمى (برنامج إثراء المعرفة) الذي يأخذ ألباب الفئات الشابة -خصوصاً- في سياحة تستكشف آفاق بعض العلوم وتطبيقاتها وتاريخ تطورها. زيارة إلى هذا المعرض الذي أقيم طوال شهر شوال في مدينة الرياض -وقبل ذلك في مدن أخرى- يجعلك تشهد نموذجاً رائعاً من الكفاءة التنظيمية والمقدرة العلمية التي تتميز بها هذه الشركة. وأهمّ مظاهر هذه الكفاءة هي عوامل الجذب التي جمعها المنظمون بتنسيق جيّد يجذب الزوار ويشدّهم إلى استطلاع جميع أجنحة المعرض المتنوعة في محتواها وطريقة عرضها، التي تلبّي فضول الزائرين بفئاتهم المختلفة من أطفال وبالغين وكبار، نساءً ورجالاً. فالجوّ الذي يطبع هذا المعرض يكاد يكون جوّ احتفال عائلي في ضيافة العِلْم. وهذه مزيّة كبرى من مزايا المعرض؛ إذ يبدو معها العِلْم مضيفاً لطيفاً جذاباً، مما يمحو عنه صورة الغول المخيف الذي يطرد العامّة بجفافه وصرامته ونظرياته. يتميز المعرض باحتوائه على أقسام متنوعة ومستقلة: قسم لأسماء الله الحسنى، وقسم لكفاءة الطاقة، وقسم يروى تطوّر الاختراعات العلمية، وقسم لمهارات الصغار المبدعين ومسابقات الأطفال، وقسم يعلم السلامة المرورية على المركبات التي يلهو بها الصغار، وقسم لمحبي اليوتيوب. وقد ريّن أجنحة المعرض ثلّة من الشباب المتطوعين للتنظيم والاستقبال، وآخرين مدربين على تقديم وشرح أنشطة المعرض. القسم المخصّص لأسماء الله الحسنى لم يُنشأ بالتأكيد لغرض التعريف بها من خلال رسمها بخطّ جميل على لوحات مبثوثة في أرجاء القسم، فهي منغرسة في عقل وقلب كل مؤمن موحّد، يؤمن مع توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية بتوحيد الأسماء والصفات، بل تمّ عرضها وعرض الصور المكبَّرة لبعض مظاهر الكون لتبرز عظمة الله الذي خلق الأكوان كلِّها وخلق العلماء الذين (يسهرون جرّاء أسرارها ويختصمون)، الذين يرى الزوار ما يُعرض من بعض جهودهم. وفي هذا القسم يتذكر الزائر الآية الكريمة (27) من سورة فاطر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (28) سورة فاطر. استعراض مكوّنات المعرض ليس من موضوع هذا المقال، فلست أريد أكثر من التنويه بأهميته ودوره التثقيفي ولتعليمي. إنه مثال جيد من أمثلة المسؤولية الاجتماعية التي يُنتظر من الشركات والمؤسسات الكبرى الحكومية وغير الحكومية أن تؤدّيها خدمة للمجتمع الذي تنتمي إليه، وللوطن الذي تنهل من موارده. وجودة هذا المثال نابعة من أثره التعليمي الراسخ ونشره للثقافة العلمية في المجتمع. وإذا كانت إقامة المعرض في شهر إجازة دراسية يخدم مدينة الرياض؛ إذ يمنحها مزيداً من الحيوية والتشويق في شهرٍ راكد؛ فإن إقامته خلال العام الدراسي قد يكون ذا فائدة كبيرة للطلاب والطالبات من حيث جذبهم للمادة العلمية بالاطلاع عن كثب على التطور في مجالات علمية وتطبيقاتها، وإيقاظ اهتمامهم بمؤسسات وطنهم، وإثارة التشوق والطموح العلمي لديهم؛ كما أن ذلك يهيّئُ للمدارس فرصة إضافية -مع الفرص الأخرى- لتفعيل النشاط اللاصفي وتشجيع المواهب العلمية وتعميق التربية الوطنية من خلال الزيارات الميدانية المنظمة، ومكافأة الطلاب بدرجات إضافية عند القيام بها وكتابة انطباعاتهم عنها. ولكن ليس للطلاب فقط تبرز أهمية الثقافة العلمية، بل إن إثارة الاهتمام بالعلوم وتقريبها لأذهان أفراد المجتمع من خلال إقامة مثل هذه المعارض وتنظيمها بطريقة جذابة من شأنه أن يقنع الآباء والأمهات بقيمة العلم والإبداع العلمي، ويدفعهم إلى تشجيع أولادهم على ممارسة الهوايات والمشاركات العلمية. الهدف من نشر الثقافة العلمية هو خلق القابليّة والبيئة الاجتماعية المحفزة للتطور والتفكير العلمي دونما عراقيل تجرّ المجتمع إلى الوراء. نعم، إن برنامج إثراء المعرفة يخدم هذا الهدف، لكنه لا يحققه. فمن البديهي أن شركة واحدة ومعرضاً واحداً لا تستطيع ذلك، بل لا بدّ من بناء إستراتيجية وطنية منسقة تشارك في تنفيذها المتاحف والمعارض العلمية المنشأة في بعض المناطق، والجامعات ومؤسسات رعاية الموهوبين والمؤسسات العلمية الأخرى، والشركات الكبيرة العاملة في مجالات التقنية، بحيث تتضافر الجهود لنشر الثقافة العلمية على مستوى المملكة وعلى مدار العام. وقد يمكن لمؤسسة علمية مرموقة في مجال البحث والإبداع العلمي مثل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية أن تتولى قيادة التنسيق والترتيب لهذه الجهود. وهي بالفعل سبق أن اتخذت الخطوة الأولى، فأقامت عام 2006 ندوة موضوعها: (نحو إستراتيجية وطنية لنشر الثقافة العلمية). وفي عام 2013 أقامت مؤتمراً دوليّاً موضوعه أيضاً: (الثقافة العلمية). نشر الثقافة العلمية ليسرفاً، بل هو ضرورة لتكوين مجتمع المعرفة الذي يسعى لبناء حضارة حديثة، كما أن الظروف مناسبة لأن يتقبل مجتمعنا ويستسيغ الثقافة العلمية، فقد تحققت إنجازات علمية تبعث على الثقة بالقدرة على تحقيق المزيد، كان آخرها إعلان مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية بالتعاون مع مؤسسة (تومسون رويترز) أن المملكة تقف على رأس قائمة الدول العربية في الإنتاج البحثي وبراءات الاختراع؛ إذ أنتجت جامعات المملكة ومراكزها البحثية (7000) إصدار بحثي في عام 2012، سابقة بذلك مصر والدول العربية الأخرى. ولكن (العلم بحر)- كما يقول لسان العامّة؛ فلِكيْ يسبح الباحثون والمبدعون والمراكز البحثية نفسها كالسمك في بحر العلم لا بدّ من نشر الثقافة العلمية في المجتمع.