ينبغي للباحث أن يتحرى الدقة والصدق والحيادية فيما يكتب وأن يبذل ما في وسعه لتجنب الوقوع في الأخطاء، لا سيما في موضوع الحكم على الأشخاص، وأن لا يكون حكمه عليهم سواء مدحاً أو قدحاً إلا بأسباب مؤكده وبعد الرجوع إلى المصادر والنصوص الموثوقة، وهذا يجعل المتلقي يطمئن إلى سلامة ما يُكتَب، ولقد خاض بعض الكتّاب والعلماء الأفاضل في حقيقة الشيخ سليمان بن عبدالوهاب ومنهم من جانب الصواب فيما كتب لا سيما وأن هناك نصوصاً موجودة في مصادر معاصرة لفترة الشيخ سليمان كتاريخ الشيخ حسين بن غنام، وتاريخ ابن بشر، فما أكثر ما يُكتَب وأقل ما يُحَقق.
وبداية من هو الشيخ سليمان بن عبدالوهاب؟ هو الشيخ العلامة الفقيه سليمان بن عبدالوهاب ابن سليمان بن علي المشَرّفي الوهبي التميمي، ولد في بلدة العيينة إبان كان أبوه قاضياً فيها، ولما انتقل والده إلى حريملاء انتقل معه، وقد نشأ في بيت علم وفضل فأبوه قاضي العيينة ثم حريملاء، وجده لأبيه الشيخ سليمان بن علي قاضي سدير والعيينة، وزعيم علماء الحنابلة في زمانه وإليه انتهت رئاسة العلم في نجد، وأخوه لأبيه وأمه الشيخ الإمام/ محمد بن عبدالوهاب صاحب دعوة التوحيد السلفية، وقد تولى قضاء بلدة حريملاء بعد وفاة والده، قال عنه ابن بشر في عنوان المجد « فأما الشيخ سليمان فكان عالماً فقيهاً قاضياً في بلدة حريملاء، وله معرفة ودراية» أهـ.
ومما وهم فيه بعض من كتب عن الشيخ سليمان أنه كان مناوءاً ومعارضاً لدعوة أخيه الشيخ محمد منذ بداية أمر الدعوة، وهذا ليس بصحيح فنحن أمام نص واضح من تاريخ ابن بشر فقد قال ضمن حوادث سنة 1165هـ ما نصه « وفيها قام ناس من رؤساء بلدة حريملاء وقاضيهم سليمان بن عبدالوهاب على نقض عهد المسلمين ومحاربتهم، وأجمعوا على ذلك، وعزلوا أميرهم محمد بن عبدالله بن مبارك، وأخرجوه من البلد، وكان الشيخ قد أحس من أخيه سليمان إلقاء الشبه على الناس، فكتب الشيخ ونصحه وحذر من شؤم العاقبة، فأجاب الشيخ وتعذر له، وأنه ما وقع منه مكروه، وأنه وإن وقع من أهل حريملاء مخالفة لا يقيم فيها ولا يدخل فيما دخلوا فيه « أهـ، ومن خلال هذا النص يتضح جلياً أن الشيخ سليمان كان موافقاً لأخيه في دعوة التوحيد في بداية أمر الدعوة.
ثم إن الشيخ سليمان - رحمه الله وعفا عنه - تراجع عن تأييد دعوة أخيه، يقول الشيخ عثمان ابن بشر ضمن حوادث سنة 1167هـ « وفيها قتل سليمان بن خويطر، وذلك أنه لما قدم بلد حريملاء خفية وهي حرب كتب معه سليمان بن عبدالوهاب إلى أهل العيينة كتاباً وذكر فيه تشبيهاً على الناس في الدين... وأرسل الشيخ رحمه الله إلى أهل العيينة رسالة عظيمة طويلة في تبطيل ما لبّس به سليمان على العوام، وأطال فيها الكلام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم» أهـ، وقد يبدو هذا التراجع من الشيخ سليمان بسبب ضغط العلماء الآخرين المناوئين لدعوة الشيخ محمد وتلبيساتهم عليه؛ الأمر الذي أدى إلى تراجعه عن تأييد دعوة أخيه.
وقد جانب بعض الكتاب كثير من الصواب وذلك في حادثة قدوم الشيخ سليمان للدرعية وإقامته فيها، فقد ذكروا أن قدومه للدرعية كان بكره منه وإجبار له، واعتمدوا في رأيهم هذا على رواية ابن لعبون في تاريخه، وتجاهلوا رواية الشيخ حسين بن غنام وهي الأقرب للصواب - من وجه نظري- كونه معاصر للحدث والفترة، وشاهد عيان ومقيم في نفس البلد الدرعية، ولديه علم بما يجرى في بلدته فقد قال ضمن حوادث سنة 1190هـ « وفي هذه السنة قدم أهل منيخ وأهل الزلفي على الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأمير عبدالعزيز في الدرعية لأداء السلام وتجديد العهد، ووفد معهم سليمان بن عبدالوهاب - أخو الشيخ - فأقام في الدرعية، ولاقاه الشيخ بالقبول والإكرام، وأحسن إليه، ووسع عليه قوته ومعاشه، وكان هذا شأن الشيخ مع كل من يفد عليه، فكان ذلك سبباً لإنقاذ سليمان وصدق إيمانه وتوبته، وإقراره على نفسه بما تقدم منه، فلم يوافه الموت إلا وهو في حالة رضية» أهـ، وفي عنوان المجد ضمن حوادث سنة 1190هـ يقول ابن بشر «وفيها وفد أهل الزلفي وأهل منيخ على الشيخ محمد وعبدالعزيز بن سعود ومعهم سليمان بن عبدالوهاب، استقدمه أخوه الشيخ محمد وعبدالعزيز، وأسكنه هو وأهله في الدرعية وقام بجميع ما ينوبه ويعتازه من النفقة حتى توفاه الله سبحانه « أهـ، ونحن هنا أمام نصين من مصادر معاصرة أحدهما شاهد عيان وهو الشيخ حسين بن غنام فلم يذكر أن قدومه للدرعية بكره منه وإجبار، بل إن كلمة (استقدم) التي وردت في رواية ابن بشر لا تحتمل الإكراه الإجبار، فمعنى استقدم في اللغة أي طلب القدوم يقال: اِسْتَقْدَمَ الرَّجُلَ أي طَلَبَ قُدُومَهُ (كما في المعجم الوسيط). ومن أهم الأمور التي خالف فيها بعض من كتب عن الشيخ سليمان الواقع والمصادر التاريخيه هي توبته ورجوعه للحق بعد أن كان مخالفاً لدعوة أخيه محمد، ومن هؤلاء ما كتبه سماحة الشيخ العلامة عبدالله بن عبدالرحمن البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) فقال معلقاً ما ذكره الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ من توبة الشيخ سليمان ورجوعه للحق في كتابه (مصباح الظلام) حيث ذكر الشيخ عبداللطيف بأنه أطلع على رسالة تدل على رجوع الشيخ سليمان إلى دعوة التوحيد وانقياده مع أخيه والتي جاء فيها « من سليمان بن عبدالوهاب إلى الأخوان أحمد بن محمد التويجري وأحمد ومحمد أبناء عثمان بن شبانه... أذكركم ما منّ الله به علينا وعليكم من معرفة دينه،وأنقذنا من الضلال، ولكن معلومكم ما جرى منا من مخالفة الحق.... الخ الرسالة «، فقال الشيخ عبدالله البسام « وأن هذه الرسالة التي اطلع عليها الشيخ عبداللطيف وهي عندي أيضاً بخط مفروغ منها ( ضحوة يوم السبت بعد انسلاخ عشرين يوماً من ذي الحجة عام اثني عشر وثلاثمائة وألف بقلم محمد بن عبدالله بن سليمان بن عياف) ليست نسبتها صحيحة فقد نسبت إليه إما لغرض حسن الظن به وإبعاد المسبة عن أبنائه العلماء الصالحين، أو لغرض الرد على أعداء الدعوة الذين نفروا عنها بحجة أن أقرب الناس إلى صاحبها بايَنَه فيها أو لغير ذلك من مقاصد.. وترجيحي ذلك لأمور: أولاً : أنه قام وقعد بمحاربة الدعوة السلفية مع علماء وقته ولم نر أحداً من هؤلاء رجع.. ثانياً أنه لم ينزل الدرعية إلا كرهاً.. ثالثاً : أننا لم نر له نشاطاً في الدعوة فإنه لن يكتفي بهذه الرسالة لو كان راجعاً إلى الحق... رابعاً: أنني اطلعت على رسالة من أحمد التويجري وأحمد بن محمد ابني عثمان بن شبانه يذكر كاتبهما أنها من هؤلاء الثلاثة جواباً لسليمان على رسالته، إلا أن فيها ما يدل على أنها كتبت بعد وفاة الشيخ محمد رحمه الله مع أن وفاة سليمان كانت بعد وفاة الشيخ بسنتين فقط، فإنه من البعيد جداً أن يبقى في الدرعية ثمانية عشر عاماً ساكتاً على معتقده الأول، وأخوه موجود ثم بعد وفاة أخيه يعلن رجوعه وموافقته لأخيه، ولعلها كتبت لنفس الغرض الذي كتبت من أجله الرسالة المنسوبة إلى الشيخ سليمان... الخ» أهـ، وفي اعتقادي أن ترجيحات سماحة الشيخ عبدالله - رحمه الله - ليست صحيحة، ومبنية على الظن وليس عليها أي دليل أو نص صريح وذلك لعدة أسباب منها:
أولاً : أن الرسالة التي اطلع عليها الشيخ عبدالله البسام ليست نفس نسخة الرسالة التي اطلع عليها الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن لأن وفاة الشيخ عبداللطيف سنة 1293هـ، والرسالة التي أطلع عليها الشيخ عبدالله مؤرخة في عام 1312هـ والفارق بينهما ما يقارب (19) سنة، علاوة على ذلك أن الشيخ عبداللطيف ومن هو في عمله وفضله حريّ بنا أن نحسن فيه الظن بأنه لا ينقل ولا يكتب إلا ما غلب على ظنه أنه صحيح فلو كانت الرسالة التي اطلع عليها الشيخ عبداللطيف مشكوك في صحتها لبين ذلك رحمه الله، كما أن الشيخ عبداللطيف حديث عهد بذلك الزمن ولعله يعرف خط الشيخ سليمان ولذا تأكد لديه صحة الرسالة.
ثانياً : إن الشيخ حسين بن غنام ذكر أن سليمان بن عبدالوهاب تاب ورجع ومات على الحق رحمه الله حينما وفد إلى الشيخ محمد في الدرعية سنة 1190هـ، فقد قال يعني بذلك الشيخ سليمان ما نصه «فأقام في الدرعية، ولاقاه الشيخ [يعني بذلك أخوه الشيخ محمد] بالقبول والإكرام، وأحسن إليه، ووسع عليه قوته ومعاشه، وكان هذا شأن الشيخ مع كل من يفد عليه، فكان ذلك سبباً لإنقاذ سليمان وصدق إيمانه وتوبته، وإقراره على نفسه بما تقدم منه، فلم يوافه الموت إلا وهو في حالة رضية» ونحن الآن أمام نص واضح وصريح ومصدر معاصر وقد يكون شاهد عيان على ذلك، فهل نقول بعد ذلك أن الشيخ سليمان لم يرجع ولم يتب من عداء الدعوة؟؟.
ثالثاً: أن الشيخ سليمان لم يقم ويقعد في محاربة الدعوة السلفية مع علماء وقته بل لم يرد ذكره في رسائل الشيخ محمد لخصومه سوى الخطاب الذي أرسله الشيخ سليمان لأهل العيينة والذي لبس فيه على العوام والمشار إليه ضمن حوادث سنة 1167هـ في تاريخ ابن بشر، وكثير من المهتمون بدعوة الشيخ محمد نفوا الكتب المنسوبة لأخيه سليمان في الرد على دعوة أخيه.
رابعاً : أن الشيخ سليمان لم ينزل الدرعية كرهاً وقد ناقشنا ذلك في بداية المقال وذكرنا أهم مصدر والأقرب للصواب وهو (تاريخ ابن غنام) لم يذكر فيه أنه نزلها كرهاً وكان بإمكان الشيخ سليمان الهرب كما هرب سابقاً من حريملاء إلى سدير حينما دخلتها القوات السعودية 1168هـ، وكما هرب أيضاً بعض خصوم الدعوة في ذلك الوقت كأمثال سليمان بن محمد بن سحيم إلى العراق، ومحمد بن فيروز النجدي إلى البصرة، واستقرارهم هناك بعد امتداد الدعوة السلفية واتساع رقعة الدولة السعودية.
خامساً : كون الشيخ سليمان لم ير له نشاط في الدعوة هذا لا يعني بقاءه على معتقده في عدم قبول الدعوة السلفية، ولعل توقف نشاطه يعود لعامل كبر السن فقد وفد للدرعية عام 1190هـ وهو أكبر من أخيه الشيخ محمد والذي ولد سنة 1115هـ، بمعنى أنه قد تجاوز عمره (الخامسة والسبعين) عاماً إذا سلمنا بأنه أكبر من أخيه الشيخ محمد كما تذكر بعض المصادر.
وأخيراً يعلم الله أنني لم أكتب هذه الأسطر إلا ديانة ودفاعاً عن جناب الشيخ سليمان بن عبدالوهاب، وذباً عن عرضه رحمه الله، أسأل الله جل وعلا أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجه الكريم، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل أنه ولي ذلك والقادر عليه.